من حق بنكيران التضحية بأخلاقيات الحاضرة الإسلامية، تـلميعـا لطموحات مُـفـلـسة، وتغطية لـشـبـه صرح أصولي تعـرَّى، من حقه مرة أخرى أن يختار الإنحناء حتى التراب ليمسح الغُـبار عن الـبلـغـة الـشريـفـة
لنتوقـف عما يقوله بنكيران بلُغـته السوقـية ودارجته المُـبتـذلة : داك اخينا اللي كايطرز الكلام |
لكن، ألـيس من حقـنا بـدورنا أن نخـتار، اخـتيار المنـفى وعـزة النفس ؟ المنفـى وشرف المـوقـف ؟ لنتوقـف عما يقوله بنكيران بلُغـته السوقـية ودارجته المُـبتـذلة : ''داك اخينا اللي كايطرز الكلام''. علما بأن كلمة ''اخِّـيْـنا''، قـيـلـت بـتشـديـد الخاء وخـفـضها، مما يـحـيل عـلى بـعـد اسـتهزائي تحـقـيـري، لكن لـنتجاوز هـذا
نعم، تطريز الكلام! وأعترف، هذه تهمة لا أنكرها، وشرف لا أدعيه. لكن ماذا عن تطريز التواطؤ مع الفساد؟ ماذا عن تطريزالدين الحنيف بالدماغـوجية التضليلية ؟ ماذا عن تطريز تحريرالأسعار في خدمة لوبيات نعرفها؟ ماذا عن تطريز التـطـبـيع، تضحية بالـقـدس عروس هـويـتـنـا الإسلامية؟ ماذا عن تطريزات اللحية الأصولية للسهام السامة في عـيون الغـد الديـمـقــراطي الـموؤود؟ ماذا عـن تـطـريـز الـنـُّـكـتة، قـهـقـهـات فـي مـأتـم الأمة ترتعش هولا مـخافـة العـودة لسنوات الرصاص
يتحدث علماء الاجتماع عن ''سلالم الانبطاح'' الذي بين انزلاقـة وأخرى ينتهي بصاحبها انغلاقا، في فـُـقاعة الطاعة العمياء المُسيًّـجة. ساعتها، يصبح الركوع لغير الله دينا عوض الدين الحق. وتصبح المعركة الكبرى، معركة تـُخاض ضد الذين اختاروا قـناعة، مُخـيَّـم الأنفة واستقلالية الفكر. ذلك أن خطورة هؤلاء لا تـُطاق، إنهم يشيرون بأصبع لا يرتعـد، لهذه الفـُـرص، ضاعت. فأنجبت هذا الهوان المتراكم والذي لا يطيب له مقام إلا إذا أصبح ربًّـا يُـعـبد عوضا عن الله جـل جـلالـه
هل يقصد من ورائها أن يسد كل الحدود على الأستاذ علي المرابط، حتى لا يعود يوما لوطنه بين خلانه وعشيرته وأحبابه ؟ |
خرفان تـُمعمع ؟ ثعالب تُـبصبص ؟
الأستاذ بنكيران يقول لنا: ''كل شيء ساكت اليوم. اللهم، إلا بعض المتشددين المتطرفين الذين يهدفون إلى إسقاط النظام الملكي''. ويشير من تحت الجبة الأصولية، إلى علي المرابط ''اللي باغي يْـحايد الملك''! ؟ أعترف أني أعدت الاستماع لهذه الجملة مرارا وتكرارا حتى أتـأكـد أني لم أخطئ السمع
هل يعى هذا الرجل ما يقول؟ ألا يقول لنا بفصيح العبارة أن الاستبداد أنهى كل صوت معارض في هذا الوطن البائس، وأن الوحيدين الذين يجرؤون على القول الـحُـر هم الذين ينعمون بالحرية في بلدان الحرية ؟ هل يعلم هذا الرجل خطورة التهمة الكاذبة ؟ هل يقصد من ورائها أن يسد كل الحدود على الأستاذ علي المرابط، حتى لا يعود يوما لوطنه بين خلانه وعشيرته وأحبابه ؟ ثم، لماذا الاستقواء بالملك وضعا للملك في قلب هذه الـتــُّـنائـية: القطيعة والإستبداد ؟ مما يعنى سد الباب في وجه الملك وفي وجه الدمقرطة حتى لا يكون هناك حوار؟
هل هو الغباء السياسي أم التخلف المعرفي؟ إننا نطرح السؤال تلو الآخر. هل اخـتـلط على صاحبنا الأمر؟ أم هي فقط مجرد زلة لسان؟ و لكن متى كان اللسان المنبطح إلا متمرغا في الصابون البلدي حتى يحسن الانزلاق نحو كل الزلات؟
هل يريد أن يقول لهؤلاء الذين يـنعـتهم بالمتشددين المتطرفـيـن: ويحكم إنكم وأنتم تريدون خلع الملك وإذا فاخلعـوا عـنكم ربـقة الـبـيعـة. لا أريد أن أمضي بعيدا في تأويل هذه الدعاية المستنقعية، ولكنى أشير إلى منطق الانبطاح الذي في هوسه الانبطاحي يقدم أسوأ الخدمات لسيده. أو ليس ينعت أناسا مما هم منه براء؟ وأتحداه أن يذكربالدليل كلمة سوء واحدة قـالـها أحـد مسؤول من هـؤلاء في حق المعني بالأمر
نعم، أو ليس من حقنا التعبير عن اخـتلافـنـا، وحقنا في الجهر بكلمة صدق؟ فهل يريدنا بنكيران إلا خرفانا تُـمـعـمـع بين ذئاب تشحذ أنيابها وثعالب تـُـبصبص بأذنابها ؟ و لكم بودي أن أسأل وأسأل: ماذا يتبقى في غياب الاختلاف؟ ماذا يتبقى من شرعية السلطة و قد كممت الأفواه؟ ماذا يتبقى من شرعية السلطة وقد وضعت يدها على كل السلط ؟ ماذا يتبقي من الإنسان في غياب حقوق الإنسان؟ ماذا يتبقى من شرعية رجل السلطة إذا كان يحلم بخصومه مُجندلين، منضدين في زنازن الهـم والغـم، و كل جريمتهم أنهم يجهرون صدقا ويختلفون رأيا! ؟
هل كان من الواجب أن يركب بنكيران هذا المركب، بمجداف الأكاذيب الرخيصة ؟ يقول الرسول الكريم : ''إن الرائي لا يكذب أهله''. و الرائي، هو ذلك الشخص الذي انـتـدبـته قافـلة القـبيـلة حتى يضرب عميقا في الصحراء ويعود بالخبر اليقـيـن. نعم، ''بعد مسيرة يوم أو يومين هناك راحة الروح أي نبع ماء وواحة ظليلة'' ، وإلا فليس هناك ''إلا الرمضاء القـفـراء''. لكن ماذا عن هذا الرائي الذى لا يرى أبعد من أنفه ؟ هذا الذى يكذب بلا وجل! ما ضره إذا أن نضرب في صحراء الـتـيه فـنموت عـطشا ؟ متى كان ذلك يزعجه. أو ليس يأكل هـنـيـئا ويـتجـشأ مـريـئا؟
هذه الصورة المرعبة طبعت المخيال الفني و ارتقت نحو علم النفس التحليلي، لتحـيـل علـى ما يسـمى بنـكـران الواقـع |
تعلم دهرا ونطق بؤسا ؟
الذين شاهدوا الفيلم السينمائي ''تـيـتانـيـك''، يذكرون تلك اللقطة المهولة. في الوقت الذي كان فيه الماء يتسرب عبر كل الشقوق، كان الهلع يتعاظم تعاظم الأمواج جبالا تجرف ما عداها، في ظل كل هذا و في مشهد سوريالي نادر، كانت الجوقة الموسيقية تواصل عزفها بنفس الرتابة ونفس الإيقاع. هذه الصورة المرعبة طبعت المخيال الفني و ارتقت نحو علم النفس التحليلي، لتحـيـل علـى ما يسـمى بنـكـران الواقـع والتحـويـم سبع سماوات طباقا بعيدا عن المجتمع و الناس و ويلات و أحلام الناس.! ؟
أقصى طموح بنكيران أن يعهد إليه بهذه المهمة الشرفية، مهمة قيادة الجوق و إدارة الأركسترا. و لكن بأصوات أعلى و موسيقى تصم الآذان حتى لا يسمع تخبط الغـرقى و أنين الجائعين و تأوهات المرضى وشكاوي المعطوبين.... و لو ارتفع صوت الآذان ساعتها مدويا مُجلجلا مذكرا بحقوق الله و حقوق الإنسان، لصرخ بنكـيـران و قد أرغى وأزبد : ''إن أنـكـر الأصـوات لـصوت الـحمـيـر''.؟
هذا الرجل هو نتاج مخلص لهذه الأصولية الحربائية، التي استعصت على السلفية المنيرة، سلفية الوطنية المغربية، واستعصت على التراث الديني الحنيف في عدالته السمحة، واستعصت على الأدبيات الحقوقية في ثورة أنوارها الإنسية. لقد استعصت على كل ذلك لتبقى كما هي، بنفس النتانة القبلية الانغلاقية، ونفس الأنانية الهوجاء المنتفخة بامتلاكها المطلق للحقيقة المطلقة. كيف نستغرب أنها لا تعرف من التعددية الفكرية، و التعددية الحزبية، وتعددية الرأي، إلا التعددية الزوجية، و تعددية الأفضلية في الرزق، و تعددية ما ما ملكت هذه اليمين و تـلـك الشمال! .؟
''أنت لست إلا صحافـيا'' |
في مقابلة مع الجزيرة رأيناه يُـعـنـف الصحافي المستجوب ليقول له بتلك اللغة الاحـتـقارية المشبعة بخشونة العجرفة: ''أنت لست إلا صحافـيا'' و رأينا الصحافي يحاول تـلطـيف الأجواء قائلا: ''إن إسمي أحمد منصور و هو أسم لأحد ملوك المغرب''. و لكن رجل الدولة و الوزير الأول ساعـتها لم يـنـبـس بـبـنت شـفـة، فهو لا يعرف من يكون أحمد المنصور الذهبى بل و لا يعرف ما يعنيه تاريخ المغرب. كنا يومها نشعر بالخجل من هذا الـتـردي و من سوء المآل هذا
بنكيران لا يعرف شيئا من هذا ولا يعرف من المرجعية الإسلامية إلا ''غرغرة بطن عمر بن الخطاب''، الذي ما انـفـك يستشهد به. لكن ماذا عن الدرس الخطابي ''عدلت فنمت''. أو لـيـسـت هـذه العـدالـة الخـطابـيـة هـي عـينها الـتى تعـتـبر الـحجـر الأساس فـي الـصرح الحقوقي؟
المرجعية البنكيرانية ما كانت و لن تكون المرجعية الإسلامية، كلا و ألف كلا. إن إسلامه ما كان إسلام الحق و الحقوق و لكنها الأصولية اللا حضارية، الأصولية المكبوتة، ذات البعد الأحادي القريشي الفض. التي تأكل مساءا ما عبدته صباحا. أصولية داحس والغبراء تلك، التى حيتما حلت وارتحلت تركتها عجفاء قـفـراء
هل كان من الواجب أن نصل لكل هذا؟ أو ليس حريا ببنكيران عوض شتمنا أن يستمع للحكمة القائلة: ''إذا كان بيتك من حطب فكيف تلعب، كطفل أخرق، بأعواد ثـقـاب؟ ''لكن متى كان الطبال يسمع إلا هدير طبله ؟ متى كان الغـياط يسمع إلا زعـيق غـيطته ؟ أو لم يكن بإمكان هذا الرجل أن يكون نبع حكمة و مصدر عزة و إلهام؟ أو لم يكن بإمكانه أن يكون منارة علم و فـخـر؟ أو لم يكن بإمكانه أن يكون نورا يهدي الحائرين، عوض هذا الحبل حبل المشنقة يفتله لأعناق الغـيـوريـن عـلى كرامة هـذا الـوطن؟
كـيـف، ثـم كـيف؟ أو لم يقض كل عمره فى السياسة؟ أو لم يـتـقـلد أرقى المناصب ؟فـكـيـف نُـفـسر هذه المعجزة، مـعـجـزة رجـل تـعـلـم دهـرا حـتى إذا نـطـق لـم يـنطـق إلا بؤسا وكفــرا؟