Rechercher

mercredi 29 avril 2020

كورونا بين فاس "اللطيف" ودرويش الحي اللاتينى....

مع هذا الوباء البغيض لم نعد نعرف... أنجلس أم نقف، أو لسنا في حيرة من أمرنا ؟ فالسماء تسقط نجوما وأقمارا فوق رؤوسنا ...العالم تـعـودناه راكضا، ساخطا راضيا، غاضبا مُـزمجرا، هو اليوم جامد لا يـبْـرح مكانه، حتى لكأني به سفينة مُتعبة أعياها التـرحال، فحطت رحالها في هذا الميناء العـتيق، هذا الرفيق الوطن. هاهي سفينتنا إذا بقلاعها المُـتآكلة، بحبالها المُهترئة. ها رُبانها العجوز لايعرف أيُـرقع قلاعه  تلك، أم يـفتـُل حبالا أخرى. لكن ما الجدوى وهذه الحبال أضحـت مشانق جديدة لأحلام قديمةٍ. أحلام تتلاشى منتحرة، وقد كانت حتى الأمس القريب دوما متجددة، كأني بها عرائس الأماني كلما أطلت، بَشَّـرت بربـيع جديد، أكـثـر بـهاء وأروع حُـلة....

 

قد يقول قارئي مستنكرا: ما لك وهذه الصورة المأساوية؟ لكن ماحيلتى والموت يُحاصرني، يخرج لسانه مستهزئا. ماحيلتى والجُـثـث تـتكدس من حَـولي ... كما دور السينما، كما المقاهي، كما المطاعم، كما المتاجر، كما النوادي، كما الجامعات والمدارس، كل شيء مُـقـفـل. حتى بيوت الأحباب، بل حتى المساجد، حتى الكنائس. أو ليست بيوت الله للإستنجاد باالله ركوعا وخشوعا ؟ فـهل الوباء البغـيض انتصر على هذه العاطـفـة الروحانـيـة العـميقـة في نفـسية الإنسان ؟

 

وأنا أعـبُـرالساحة العامة بالحي اللاتيني، معـقـل كل الانتفاضات الفكرية، استوقـفـني رجل بثياب مهلهلة، ولحية لا مُشـذبة، يصرخ : " يا أيها الناس، يامعشر الضباع، ها أنتم اليوم بين كماشتي الكورونا، ومع ذلك لم تَـتـَّـعـضوا، ولو فعلتم لأدركتم أن هذا بلاء من  ربكم، فاذكروا الله يذكركم، واركعـو لجبروته خاشعين، فالرب وحده يُـنقدكم، وعليكم بالجُـتو صبحا وعشيا أمام صورة السيدة العـذراء فهي خلاصكم !". كان الرجل يصرخ بكل ما أوتي من نبرة، وكان يهتـز بأكمله ضاربا الأرض بقدميه، كأن جمرا تحت إبطيه.. والغريب أن معشر العابرين القلائل كانوا لا يُـعـيرون هذا الرجل أدنى اهتمام: " إنه ليس إلا درويشا ينتمي لكل هؤلاء الدراويش الذين ما انفكوا يـقـتـفـون خُـطى السيد المسيح". و في لحظة رأيت رجال البوليس يتقدمون، يطلبون من الرجل أن يستأنف طريقه مخافة التجمهر، لكن الرجل إنطلق في شتائم تعـبـيرا عن غيض مكتوم، ساعتها لم يتردد رجال البوليس في لَـيِّ ذراعه والإلقاء به في سيارتهم، كما لو كان حزمة قماش مُهملة. تساءلت ساعتها هل السلطة نفَسٌ من أنفاس الفيروس ترفض إسم الله و إسم مريم العذراء؟

بلغـني أنه في فاس، أو ليست العاصمة الروحية لبلادنا ؟ تجمهر مجموعة من الناس،  وانطلقوا في تلاوة اللطيف، ذلك الدعاء الاستغـفاري الذي نهرع له كلما حل بنا هول أو ويْـل: " يا لطيف ألطف بنا فيما جرت به المقادر .." ما أن انطلقت الحناجر بهذ الدعاء، حتى  هرع أبالسة البوليس، لـتـشـتيـت ذلك الشمل، وإخراس ذلك اللطيف.. لقد علق أحد الظرفاء في مواقع التواصل الاجتماعي : " لو أن هؤلاء الناس قالوا يا سلطان السلاطين وأمير المؤمنين، ألطف بنا فيما جرت به المقادر.... لو كانوا فعلوا، هل كان رجال الشرطة يـتـدخـلون بـتـلـك الفضاضة، أم كانوا يصـفـقـون بأياد ناعمة، وعبارات حامدة، وقـلوب واجـفـة ... "

 

نعم، لا كنائس هنا، لا مساجد هناك، المؤذن يؤذن لصلاة غاب مؤمنوها، حتى لكأن الأرض ابتلعـتهم. الفقيه المحدث فـقـدَ منبره، لم يعد يملك إلا سجادته وهذه باهتة، لم يعد يعرف كيف يلقى موعضته، وإن ألقاها فمن ينصت لها و حتى لو توفر بعض المتـنطعـين فهل يقول لهم: " هذا بلاء من ربكم! " وكيف يقول هذا ولا يقول أنَّ رَفع البلاء يأتي مع رَفع الفساد والإفساد، ورفع الاحتكارعن طعام الإسلام والمسلمين، وسَن قوانين العدل والقسطاس ..كيف يتحدث الفقيه إذا عن خلاص ما و الخلاص طافح بالألغام؟

 

في أوروبا تُـقـفـل الكنائس لأنها قد تصبح معـقـلا للفيروس، في بلادنا تُـقـفل المساجد لنفس السبب، ولكن لسبب آخر أهول وأخطر، وهو أن إسم الله بلسم يُشـفـى و يُعـفـى .. ماذا يبقى من إنسانية الإنسان، إذا تم دوس العـدل، وهوالأمر الإلهي بامتياز ؟ هل يبقى إلا الشيطان ساخرا، ضاحكا مقهقها، يحمل عصاه يهش بها على أغـنام تعـددت بين طاعون وجُـذام وكوليرا وسُـل وكورونا..... واللائحة طويلة.

 

هل كان من الواجب أن تتكـتـل الجثث من حولنا حتى لا نصبح في غـفلة من أمرنا ؟ هل كان من الواجب أن يصفعـنا الوباء حتى نتوقـف عن هذه الهرولة، فنسأل بأي ذنب قـُـتل رفاق وجيران وأحِـبة لنا ؟ هل كان من الواجب ذاك حتى نتحصن في بيـوتنا، كفئران مذعورة من قـطـط تـتـسرب عبر النوافذ والشُّرفات وشقوق البيوت ؟ هل كان من الواجب أن يغـيـب نهارنا في ليلنا، تُــدغم أمسياتُـنا في سُحورنا، حتى لكأني بالساعات حبات مسبحة في عـقـد تـتـآصر صِلات وصْـله حبلا يلتف حول أعناقـنا ؟

 

بالله ما العمل ؟ نثور ولا أدنى صدى لثورتـنا، نصرخ ولا أحد يسمع صُراخنا، نخرج للشارع لكن الشارع فارغ، ندخل الحديقة لكن الحديقة خاوية على عروشها، حتى أزهارها ذابلات مُـحتضرات، نطرق أبواب الأصدقاء، لكن لا مجيب، كأني بكل واحد تمدد في نعـشه مرتعـشا يحتسي كأس المرارة في انتظار تَـكـفـينه !..

 

نشعل التلفزيون فإذا به أصم أخرس، وإن تحدث فعلى الموت والموتى، نفتح المذياع فإذا به إلا صدى للقبور والمقابر، ونتساءل : هل نفخ إصرافيل في الصور! هل الشواطئ الجميلة، والنساء الجميلات، والأحلام الجميلة، والموسيقى الجميلة، والمواعد الغـرامية، هل كل هذا لم يكن إلا أضغات أحلام، أكوام رماد اندثرت مع سالف الأيام؟

 

ها نحن وجها لوجه أمام الموت، كأننا نعلم يقينا أنه قادم سيطرق بابنا لا محالة، لذلك كلما ارتفعـت أعداد الجُثـث، كلما شعرنا ببعض راحة، لأننا نهمس بجُـبْـن في آذان أرواحنا : "لعل الموت يَشبع، لعـله يُـصاب بالتــُّـخمة، ساعتها يعافـُـنا يلقي بنا في سلة مهملاته عوض افـتـراسنا ".

 

في ذلك الزمن الجميل، ذلك الزمن الراحل، وقفت يوما في متحف اللوفـر، أمام لوحة لذلك العبقري الملهم بابلو بكاسو، إنها آخر لوحة رسمها لشخصه، وقد بلغ من الكبرعُـتيا، فـبَـدى شخصا هزيل الملامح، فاغـر الفم  دهشة، وعـينين جاحضتين حتى لكأنهما يَـنسلان من محجريهما. إنها صورة الفنان العـظيم وجها لوجه أمام الموت. ما أن تذكرت هذا، حتي هـرعت لِـلمِــرآة، فربما كانت عيناي جاحضتان، وربما كنت فاغرا فـمي دهشة، وربما كان أنـفـي يـسـيـل بلعـاب لـِزج....عـفـوا عـفـوا... سأتوقـف عن الكـتابة هُـنا ... إن أحـدا ما يـطـرق خَـبْـطــا بـاب الـدار...

الدكتور أحمد بن بنور