في كل موسم يعلن فيه عن
جائزة نوبل للآداب، تنطلق الضمائر الحية العربية معبرة عن سخطها متسائلة كيف
لايفوز بها أدونيس وإن لا فمحمود درويش، وكيف لا وهما يجسدان حقا وصدقا أبرز وأجل
المبدعين، لا عربيا وكفى ولكن عالميا.
لكن هناك صنف آخر من
"المثقفين"، ما أن ينتهى إليهم أن أدونيس لم يكن الفائز حتي يتنادون
بصفير ونفير تهتز له جوانب الاودية، تم يركبون بعرانهم، وينفرون خفافا وتقالا
يضربون أكباد الإبل، نحو سوق عكاض. هناك على مشارف خيام كليب، يحطون رحالهم،
يوقدون نارهم، يحرقون بخورهم، ينحرون نوقهم،
ثم يجتمعون فى حلقات، فيتغنوا بأمجادهم وفتوحاتهم وأشعارهم كما رواياتهم
التى صار لها الدهر منشدا. وبعد هذا يتحولون للأهم والأخطروهو شتم أدونيس، الذى
جدف على أصنامهم وأزلامهم وكافة مقدساتهم بدءا باللات وانتهاء بمناة.
سؤال: لماذا يفجر أدونيس كل هذا الغيض؟ هل لأن
أرضنا وهى أرض الشوك لا تطيق هذه الرياحين فى يد رجل كلما نثرها بسخاء، كلما عاد
يفعل بسخاء أكبروتألق أروع ؟ ثم كيف لرجل بهذه الرهافة تلتقط أدق الخلجات، فى خد وردة أثقلتها دمعة
ندى.. كيف لهذا الرجل أن يحتمل كل هذه الشتائم والتلميحات الرخيصة، ويواصل بأنفة
الرجال الأحرار مسيرة الحرية ؟
نعرف جيدا أن الكتاب الفاشلين تسعفهم الشتيمة ولا تسعفهم الكلمة، نعرف أن النفوس الصغيرة تخاف على صغارتها من الإضاءات الخلاقة والكاشفة. لكن مالذى يغيض فى شخصية أدونيس، هذا القادم من منافيه البعيدة ليتربع على عرش الإبداع فى عالمنا ؟
الذي يغيض فى هذه
الطاقة المشتعلة حرارة وإيمانا، أنه مسيرة وإبداعا واجتهادا يشكل أقبح صدمة لقانون
الرداءة فى عالمنا القاحل. إنه كشاعر لايقرأ قصيدته علينا وينتظر منا تصفيقا، كلا
إنه يكتب اليوم لينتقد ما كتبه أمسا، إنه يعيش تلك المغامرة الخلاقة دوما وأبدا ،
مغامرة التجاوز الذى يخلد لحظته العميقة، تلك المرتعشة جنينا فى رحم كون يكره المخاض بغير الجديد.
لو كان أدونيس شاعرا
وكفى، لغفر له خصومه، لكنه يمضى أبعد من ذلك، إنه يرتقى بعنفوان الخلق سلالم
الجوزاء، لينتشل من الآلهة مشاعل الفكر، ولكي يفعل فإنه يتسلح بملكات لغوية عديدة،
وبحس وجدانى عميق تغذى فلسفة وألسنية وعلم نفس، كل تلك الأسلحة التى بدونها يظل الثرات
كومة أسفار ميتة، فبالله يا أهل عكاظ كيف للعملية الإبداعية أن تتم فى غياب
الإدراك العميق لهذا الموروث، بتياراته وتوتراته وتناقضاته بدخيله وأصيله وغريبه
باستمرارياته وقطيعاته بمنسيه ومهمشه، بالمحتفى به رايات مشبوهة، والمقتول فيه
بسبق إصرار إجرامى ؟
دلوني رجاء على مثقف
عربي واحد مندرج فى مسلسل الغضب الفكرى العادل ويقول أنه لم يستنر ببعض خلجات نور من هذا الكوكب الذي إسمه أدونيس؟
وكانت يومها الغضبة
الأدونيسية الرائعة، كان يعلمنا احترام التراث، وضرورة الغوص فيه مللا ونحلا، صوفيا
وخوارجيا، صعلوكيا هامشيا، وفقهيا خليفيا، وكان يؤكد أن العملية الإبداعية شعرا أو
نثرا أو فكرا ليست إلا هراء فى غياب التجاوب والتلاقح والتفاعل والحوار مع التراث
والثقافة الإنسانية.... ياللهرطقة الأدونيسية يومها عندما قال: التجاوز الفكري
والإبداع الثقافى إما أن يتم بفضل جسور الحوار والتفاعل مع الثقافة الثابتة وإلا
فإنه أضغات أحلام .
ياللهرطقة الادونيسية
عندما علمنا يومها كيف نقرأ القرآن قراءة ثقافية، مذكرا إيانا بأن هذا النص الإلهى
الكريم، نص جامع للثقافات الدينية يهودية ومسيحية، وغيردينية إغريقية وفارسية ..
وإذا مادام كذلك فهو الجامع للروح الإنسانية و سنكون مجحفين فى حقه لو قرأناه
القراءة التقليدية أو المادية، فكلاهما مجهز على خصوبته الروحانية العميقة .
وكانت دهشتنا يومها،
كنا ننتظر من أدونيس أن ينزلق معنا على نفس الموجة، أن يدعونا لقتل الأب، فإذا
به يدعونا لمصالحة الأب وعناق الأم مسافة
وتحليلا ونقدا، وكنا نستخلص الدرس الرائع : متى كانت فواكه الأشجار فواكها فى غياب
الوفاء للجذور ؟ .
ماقيمة مفكر في غياب
مشروع فكرى حضاري ؟ وإذا فمامشروع أدونيس ؟
هذا الرجل وبإخلاص
المفكرين الأحرار، من أول كتاب حتى آخره، من أول مقالة حتى آخرها ، يظل مهووسا
بوضع أسس الحداثة الثقافية العربية. لا يهم أن يكون قد وفق أم لا فما أكثر البذور
تنتظر موعدها مع الربيع القادم، لكن من قال أن هذه الزوابع المشتعلة هنا وهناك
ليست إلا شرارات منبثقة من الضمائر الكبيرة ؟