فى ذلك الصباح إستيقض أهل رباط الفتح على ضجيج وهدير وزفير.. وكان
الشارع الذى يحتضن القبة العتيدة أو ماصطلح على تسميته ب"بر الأمان" قد شلت فيه الحركة،
فانطفأت الأنوار خضراء كانت أم حمراء ، ولم يعد هناك إلا سيل لامتوقف من كل أصناف
الحيوانات والنبات ، جاءت متظاهرة ساخطة غاضبة
تنفت مابرئاتها غيضا حارقا ..
تهاطلت عربات الشرطة، نزل زبانيتها مدججين بهراواتهم ، ولكنهم
فوجئوا كيف يعتقلون؟ كيف يستعملون أصفادهم وهذه صنعت للأيادى؟ فكيف لمن يدب على
أربع أو على عشر أو يزحف على بطن أو يقف على جدع ؟ ضربوا أخماسا فى أسداس ومعهم
داخليتهم ، لكن شيخ عدلهم أشار عليهم أنه
استئصالا لشأفة الفتنة وجب محاكمة العصاة
حيث هم فى الشارع العام أمام أنظار الأمة ..
بعد تشييد المنصة ،جاء
القاضى وأعضاء هيأة التحكيم ، صرخ الشواش
:"مححككمة"، وقف الجميع جلس القاضى كما جلس زملاؤه فجلس
الجميع .. صوب القاضى نظرة شزراء للجموع
المتهمة فقال : " إنكم معشر النبات والحيوان والآليات متهمون بالإخلال بالأمن
العام وبالضرب فوق وتحت الحزام ..فما خطبكم وما مطلبكم ؟!"
زمجر السبع زمجرة إهتزت لها أركان الشارع وأركان المدينة، إرتعش
القاضى فقال : " الكلمة لكم ياصاحب المهابة " قال الأسد : " لا أقول سيدى القاضى فأنا السيد هنا بلا منازع، ولكنى أقول حضرة
السيد القاضى، إنى أنا الأسد بجلالة قدرى، بسيادتى وعزتى إستولى أبناء البشر
فى حاضرتكم أم حضيرتكم هذه ، على إسمى
لتمريغه فى مستنقعهم ذلك، فكيف
حضرة القاضى وإسمى أشرف من أن يلطخ وهيبتى أنبل من أن تمسخ...؟!!
سكت الأسد مزمجرا بغضب سرى فى أركان المدينة كتيار عزة جريحة، سكت القاضى وقبل أن يعقب على شيئ علا صهيل
الجواد .. قال القاضى :" تفضل حضرة السيد الجواد، الكلمة لك " تقدم
الجواد وبنحنحة أسى: " سيدى القاضى كأنى بكم لا تجهلون أصالة محتدى
وعناوين فخرى أو لست " جلمود صخر حطه
السيل من عل "؟ أو لم أشك لفارسي " بعبرة وتحمحم "؟ أو ليس ظهرى عز
وبطنى كنز كما قال أشرف الأنبياء ؟ أو لست مجدا وصهيل توق للعلياء ؟ فكيف يمرغ
إسمى فى هذه النخاسات؟ كيف أهان؟ هل بعد
أبطال العرب وسروج الذهب أبردع اليوم فيركبنى رجال من تبن وقصب ؟"
تقدمت الغزالة بعينيها البريئتين، فقالت أولست سيدى القاضى رمز الحب
والوداعة والوسامة، فكيف أمرغ فى بركة الدمامة ؟ تقدم غصن الزيتون فقال أو لست رمز
البشرى لنوح وللبشرية بأن الطوفان ينحسر فكيف أصبح رمز طوفان جديد ينهمر ؟ تقدمت
الحمامة فقالت أو لست سيدى القاضى رسول سلام فكيف أصبح فرخة شؤم ..!؟ تقدم الميزان فقال أو لست سيدى
القاضى رمز القسطاص والعدل فكيف أصبح رمز
الكيل بمكيالين وأداة وزن أصوات البشر
فلسا أو فلسين ؟؟!.
تقدم التراكتور فغمغم ودمدم، لكنه وهو ينفت دخانه ، طغت أصوات
أخرى فهذا صوت الذئب يعوى : النجدة سيدى
القاضى فقد إستولى هؤلاء الناس على أنيابي فكيف لى بفتك أو هتك ؟! تم علا صوت
الضفدعة نقيقا حادا : النجدة سيدى القاضى لقد أخذ منى هؤلاء الناس
كل جبنى فكيف يطيب لى مقامى فى مستنقعى
..!؟ تم علا فحيح الأفعى صفيرا عاليا : النجدة سيدى القاضى لقد أخذ منى
هؤلاء الناس كل سمى فماذا يتبقى لى من
آيات سطوتى ..!؟ تم علا صوت التمساح :
النجدة سيدى القاضى لقد أخذ منى هؤلاء الناس عبراتى المدرار فكيف أستعطف وكيف
أتباكى وفى ذلك سر بقائي وأنا الجسد الثقيل المترهل المنهار..!؟
وتقدم سرب طويل من حيوانات
أخرى فهذه الحرباءة صفراء فاقعة جردوها من
كل ألوانها ، تم بعدها تقدم الثعبان والثعلب والخفافيش وبنات آوى والوطاويط
والعديد مما يطول ذكره ..
وحتى هذه اللحظة لا يزال القاضى يضرب بمطرقته يطالب بالصمت ، ولا
يزال أهل المدينة فى تبرم وضيق، لا يعرفون كيف يستأنفون عيشهم، ولا تزال حركة
السير متوقفة ،ولا تزال الأضواء منطفئة ، حمراء كانت أم خضراء وحتى هذه اللحظة لا
يزال هدير الحيوانات يعم المدينة، شهيقا وزفيرا وفحيحا ونقيقا وصهيلا ونهيقا وعواء
ونباحا ....