Rechercher

dimanche 21 novembre 2021

كلا حضرة الأستاذ المهدوي إنهم البرطيزة

 

يقول الأستاذ المهداوي في هذا الفيديو، بأن الأمير عبد الكريم اشتكى في رسالة موجهة لمسلمي الجزائر، من "جزائريـيـن يـقـتـلون أهل الريف، أشقاء الزفزافي" و يستشهد أيضا بالجنرال خالد نزار، الذي أكد حسب تعبيره، نفس الشيء بالصورة و الصوت.

 

Ahmed Ben Bannour

لو كان الجنرال نزار خالد حاضرا، و استمع لهذا، لشهر مسدسه ساخطا، غاضبا، موعدا، مهددا، صارخا : هذا تشويه مـقـيـت لما قـلـته. 

لكن ماذا عن أمير المجاهدين؟

كأنى بالأمير محمد بن عبد الكريم و هو يستمع لما يقوله المهدوي يتقلب في قبره. و لأن الأمير في رحاب الأبدية، فإنه ينتدب المؤرخ النزيه حتى يتكلم بإسمه. و إذا فهذا حديث الأميرعلى لسان  المؤرخ  :

"إنى أنتفض بكل الأنفة الجهادية لأقول هذا تشويه للتاريخ و تضليل للرأي العام و فأسا حافيا يريد أن يحفر هوة بين الأمة المغربية و الأمة الجزائرية. كلا و ألف كلا، أشقاؤنا الجزائريون كرجال، هم من أشراف الرجال، و كنساء هن حرائر النساء، و مع هؤلاء و أولئك تجمعنا أواصر الأخوة و التاريخ و الجغرافيا. و أكثر من هذا، تجمعنا معهم أواصر الحلم المغاربي المشترك، و الدين المشترك، و الأفق المستقبلي المشترك.

 

ahmed Ben Bannour

"نعم الرسالة المذكورة رسالتي حقا، لكن يُـراد بها باطل رغم وضوحها، و لو استحضر المُستشهِد بها، الظرفية التاريخية ساعتها، لفهم أني ما كنت أعني الجزائريين بالمطلق، و لكني كنت أعني الجزائريين المنضويين تحت علم الجيش الفرنسي. و هذا يعنى المرتزقة، و هل هناك بلد مستعمَـر لا يعرف مرتزقة ؟ نعم، مرتزقة الجزائر حاربوا ضدنا و هم مسلمون. و لكن كيف نمضي بعيدا و لا نذكر مرتزقة المغرب؟ أو لم يحاربوا ضدنا تحت ألوية الجيش الاستعماري فقتلوا أولادنا و جنودنا و فتكوا بنسائنا  ؟ هل أذكر أنهم أبلوا البلاء القذر في خدمة المشروع الاستيطاني الاستعماري؟ هل أذكر بذاك القايد و تلك الزاوية و هذه الطـُّـرُقـيـة، رموزا ساطعة عن الضلوع في الجريمة الارتزاقية؟ 

هل أذكر أن هؤلاء المرتزقة المغاربة، هم أنفسهم الذين حاربوا بجانب الجيش الفرنسي، و قتلوا إخواننا في الجزائر ورفاقنا في حرب الهند الصينية؟ أو ليس أفـقـيـر السيء الذكر رمزا ملطخا بالدماء الطاهرة جزائرية، مغربية، هند صينية؟ أو ليس فريقا من هؤلاء المرتزقة المغاربة الذين قتلونا في الريف، و قـتـلوا إخوانـنا في الجزائر، هم أنفسهم الذين كانوا رأس الحربة في حرب فرانكو ضد الديمقراطية الإسبانية؟ أو لم يُـلـقـبهـم الإسـبـان ب "فـيلـق الـرعـب"، لجرأتهم الإجـرامـية الـتي لـم تـكـن تعـرف وازعا و لا رادعا؟ أو لم يشكلوا جزءا من الحرس الخاص للجنرال فرانكو بعد انتصاره؟

"يا أهل المغرب! اياكم و إياكم من حرب ضد أشقائكم في الجزائر. إنها إن وقعت، لا قدر الله، فستكون الحرب الأغدر و الأحقر و الأقذر. و ستكون ايذانا لخرابكم و انهيار حضارتكم .. اللهم إنى بلغت! اللهم إنى بلغت! ".

انتهى كلام الأمير الخطابي على لسان المؤرخ الذى يضيف اسـتـكمـالا لـلفـائـدة :

"و للتذكير فإن هؤلاء المرتزقة من الجزائريين الذين قتلوا أشقاءهم في الجزائر و في المغرب، هم، أنفسهم المسمون "حركيين". و هم الذين غداة انتصار الثورة الجزائرية التحقوا بفرنسا هربا من انتقام الأمة الجزائرية. و هم أنفسهم المقيمون حتى اليوم بفرنسا  مرفوضون كل الرفض من جزائـر ترفض باشمئزاز أن تكون لهم وطنا!

 

Ahmed Ben Bannour

لكن ما القول عن حديث الجنرال خالد نزار؟ أو ليس خطابه يندرج في هذا الإطار؟ إنه عكس ما قيل. لا يؤكد في كلمته صورة و صوتا، أن والده قتل الريفـيـيـن و لكنه يقول بالحرف "هذا ممكن". مما يعنى أن والده، و لأنه المنضوي يومها تحت لواء الخدمة العسكرية الفرنسية فإن كل شيء والحالة هذه ممكن. لا قـتـل المغاربة و كـفـى، و لكن قـتـل الجزائريين أنفسهم. و لكم بودي القول، ما أحوجنا إلى هذه الشهادة، بهذه الصراحة الجارحة، التي تحمل في طياتها الكثير من الأسى و الكثير من التمزق. تـَـمزق الوعي الوطني الإسلامي المغاربي، تحت ضربات العدو الاستعماري الذي يفرق غـدرا بـيـن الشقـيـق و شـقـيـقه.

و في نفس السياق أقول ما أحوجنا إلى خطاب الحقيقة التاريخية، فهو وحده يَـشفى و يعـفى و يـبـني و يصافح، عكس الخطاب القومي الشوفيني، الذى يقود للحرب و الإفلاس و الإستبداد  و الـتـنكـر لروابط الأخوة و الدم.

 

Ahmed Ben Bannour

ما كانوا جزائريون و لا مغاربة و لكنهم "البرطيزة"

ابـَّـا ادريس، شيخ جليل من عائلتي شخصيا، تغمده الله برحمته، هذا الرجل الذي كان يبهرني بذاكرته اليقظة و قوة شخصيته المرحة. ذات يوم، و خلال حديث عابر عن الأمير عبد الكريم، فاجأني الرجل بقوله :" نعم، لقد كنت ضمن المجندين في الجيش الفرنسي في الحرب ضد أهل الريف". و عندما أبديت إستغرابي قال الرجل، لا مدافعا عن نفسه و لكن عن حقيقة تاريخية، إذا جهلها المؤرخ فقد جهل كل شيء : "لم نكن يا ولدي نعرف شيئا عن عبد الكريم و لا عن حربه. و كل ما كنا نعرفه دعاية الجيش الاستعماري الفرنسي الذي أقنعنا يومها بأن عبد الكريم يريد محو الشريعة و الإسلام و إعادة الجاهلية. لذلك فقد أباح زواج الأخت من أخيها و الأب من إبنته و الفتاة من عمها أو خالها. و كان كل هذا يلهب حماسنا دفاعا عن ديننا و لم نعلم إلا بعد حين كيف كنا مُغـررا بنا".

و عندما سألته ما منزلتكم يومها، هل كنتم جيشا مغربيا أم فرنسيا؟ أجابني الرجل : "لا هذا و لا ذاك كنا نسمي أنفسنا التسمية التي أعطانا الفرنسيون إياها و هي : "البرطيزة"!    

و كلمة البرطيزة هذه، هي التي اصطدمت بها خلال دراساتي التاريخية تحت مسمى"les partisans" و"تعني الانصار" فى كتابات روبير مونطان و ميشو بلير و جاك بيرك، و غيرهم ممن اهتموا بالـثـورة الـريـفـيـة.

ويحك أستاذ! ما كنت قـرَّاع طبول و لا قـراع خطوب؟ 

لماذا تـُـقـرع طبول الحرب ضد الأشقاء في هذا الوقت؟ هل الأمر محط صدفة أن المظاهرات تشتعل في بلادنا ضد سوء المآل و تدهـور الحال. فكيف الخروج من عنق الزجاجة؟ كيف و الساحر لم يعد له من أرانب يخرجها من قــُـبعته. فكل الأرانب تحولت قطط شؤم و بؤس؟ أو ليست حربا ضد الجزائر تحويلا للأنظار و صرفا للخواطر و تلهـية لـلأسماع؟ و لم لا والنصر مضمون. فإسرائيل تؤازرنا و معها أسلحة الدمار الشامل. إنها لا تشترط إلا الركوع الشامل أمام جـُـبـن جبروتها.

نعم، إسرائيل بجانبنا تسلحنا لنسحق أشـقائـنا! لكن كيف تـتسرب لحـمانا؟ و هل هناك إلا الصحراء، حصان طروادة، تـنـفذ منها للقلعة العتيدة؟ هل هناك إلا الصحراء قيتارة بين يديها  تـنـقـر على أوتارها و هي تحلم بالرباط  تحرق الجزائر العاصمة! تم بعد هذا فـلتحرق الرباط الرباط! أو ليست إسرائيل بحاجة لكل هذا الرماد، حتى تدره في هذه الأعين الحالمة بذاك الفجر المغاربي تجلى سرابا؟

يقول حضرة الأستاذ بأننا " أحسن من الجزائر مليار مرة ". من الأفضل من الأحسن ؟ هل نحن في مباراة الحسناوات، تنصيبا للحسناء الأروع و الأجمل أي: "ميس ماروك" الغادة الفاتنة التي ستمثل الأمة في إسرائيل. و التي ما أن تم اكتشاف  قطرات من دماء جزائرية بعروقها،  حتى اشتعلت البلاد استنكارا و غضبا دوسا عليها و إسقاطا لها من عرش جمالها. أولسنا هنا في عز الانحطاط الحضاري أو ما اصطلح عليه علماء الاجتماع، بالجهل المقدس؟

 

Ahmed Ben Bannour
كوثر بن حليمة ملكة الجمال و كاملة الاوصاف لولا قطرات من الدَّم الجزائري في عروقها

ما أكثر الصدور المنتفخة زهوا تطالب بحقها في وسامها و ريعها، لكن منذ اليوم إن تقدمت النهود الغضة بدورها مطالبة، هي الأخرى بحقها في وسام شموخها، فإنها يجب أن تخضع لامتحان الحامض النـووي، حتى تـؤكد نـقاوة عذرية الدم القـبلي، وصفاء نـتانة الانغلاق العشائري؟

خسارة الكلمة خسران الحضارة

ذات يوم تابعت فيديوهات للأستاذ المهداوي عن تجربته المريرة في السجن. و بقدر ما كانت تغوص في عمق الحداثة الحقوقية المداسة، كانت تنضح تسامحا نبيلا وعفة ترفعت عن غل أو حقد أو مالا أعرف. في إحدى هذه الفيديوهات كانت المُستجوِبة سيدة فاضلة لا تقل إشراقا عن الأستاذ. لا أعرف لماذا أعطتني إنطباعا أنها رفـيـقـة حـياة هذا الرجل. و إذا، فإن الزوج الكريم كان يكـبُـر في أعـيـنـنا أكـثرلـيصبح رمز إشعاع حضاري مُـنـيـر. 

 كم بودي أن أهمس في أذن الأستاذ المهدوي: "متى كانت اليد المنحنية تصافح أو ترسم؟ ماذا يتبقى من صورة رجل الكلمة إذا خسر الكلمة؟ ماذا يتبقى من إشعاع رجل القلم إن هو خسر الـقـلم؟ ماذا يـتـبقـى من رجل الـثـقـة إذا خسر ثـقـتـنا ؟ متى كنا ساعتها نأذن لآذاننا بالإستماع فأحرى بالإنصات، ؟ متى كان يلهمنا هذا الناي المنبتق من شجونا وقد أضحى عزفه حشرجة في صدورنا؟

الدكتور أحمد بن بنور   

 

jeudi 11 novembre 2021

المهدي بنبركة. هذه محكمة التاريخ. قـفـوا أيها الـقَـتَـلة

 

هل كنا نحج لبيت الله الحرام أم ترى لموقع الجريمة الحرام ؟ هناك، أمام المقهى " ليب" كنا نلتقي كأننا نجدد قسم الإخلاص لوصية الشهيد. كنا نتصافح، نتعانق مبتسمين. فهل كانت ابتسامتنا إبتسامة تحد؟ أم ابتسامة تَـشَـف من أهل الغـدر و قد تشتـتـوا مـيـتـيـن؟ و ها نحن اليوم أقـوياء مُجـتمعـين!

 

الدكتور أحمد بن بنور

ها نحن هناِ وهاهم هناك، أولئك الذين قتلوا الشهيد، فهل كانوا حقا يفعلون؟ أم ترى كانوا يزيحون الستارعن حقيقة هُويتهم؟ هل كانوا يعـون أنهم و هم يتصورون طي  صفحة الشهيد لم يكونوا إلا مُدبـجـين لصفحة عارهـم؟ و الدليل، ها هم يتوارون خلف سُــجـف العدم، أما الشهيد فهو المُـشـرق على الدوام، و الحاضر على الدوام. حتى لكأني به يحتل كل فضاءات الفخر فـيـنا. ها هو يمشي بجانبنا في الأسواق يشاركنا أحلامنا و يهمس في آذاننا: "إياكم ثم إياكم أن تعودوا لبيوتكم مساء، و أياديكم ليست نظيفة، إياكم أن تُـقـبلوا أطفالكم و أنفاسكم مُـلطـخة فسادا أو انبطاحا ذليلا. إياكم، فالركوع لغير الله تـقـبـيـل لـتُـراب ملوث بأحذية مُـتـسـخـة."

هل انتصر المتآمرون وقد وضعوا حدا لحياة المهدي؟ يا للنكثة السخيفة، هل قَـتْـل الـرُّقـي إنتصارا؟ هل قـتـل الحرية إنـجازا؟ ذكروني بذلك المفكر الذي قال "المستحيل نسف روح العزة في الإنسان للأبد". ذكروني بذلك الدكتاتور المُـتجـبـر قـهـقه ضاحكا و هو يغتال الحرية و كانت واحدة أحَـدَة، و لكنه اكـتـشفها منـذ الغـد بُـذورا مُـورقـة و حناجر صارخة عـبـر أرجاء امـبراطـوريـته المـداسـة.   

في الوقت الذي كان فيه الأقـزام يَـدسون خنجر الغدر في قلب الرجل العملاق. كانوا في نفس الوقت، يحفـرون قبورهم في مقابر المجهولين، حيث تـتـبـول الكلاب الضالة. في ذلك الوقت، كانت الأمة المغربية تشيد صرحا للرجل المغدور. صرحا خالدا في قلوب المغاربة، و قلوب أهل القارات الثلاث، صرحا أرادته هـَـرَم مـجـد لا يـندثـر.

الدكتور أحمد بن بنور


ولادة المهدي و ولادة مغرب آخر   

وُلد المهدي مند مائة عام، وهو القرن الأهول في تاريخ المغرب، إنه قـرن الإستعمار المقيت والحركة الوطنية الرائدة و المقاومة الباسلة و الإستقلال الملغوم. فلا قـرن المرابطين و لا قرن الموحدين و لا قرن المرينيين يُـضاهـيه. لماذا؟ لأن كل هذه القرون مجتمعة، كانت قرون المأزق و الانسداد التاريخي. لم يكن الوطن يستعـيـد عافـيـته و يرفع رأسه إلا ليعرف السقوط مجـددا و مـعـه سـيـل الـحـروب و ما شـئـت من فِـتـن و قـلاقـل، قـال عنها الـمؤرخـون "يـشـيـب لها الولدان".

المائة عام الأخيرة، أي حياة المهدي مضاعفة، تعنى قرن المخاض و النهوض. أي الخروج من عـنـق الزجاجة، و الانـفـتاح على الـقـيم التحررية العالم ثالثـيـة. لأول مرة في تاريخه، كان المغرب يحطم الـقـوقـعـة، و يـعانـق الهـموم الـكـونية، و المـهـدي هـو التجـسـيد الأكبر لهذا التوق رفعة.

هل كان المهدي يحضر لمؤتمر القارات الثلاث أم كان يحضر لمغرب يخرج من نـتـانـة الانغلاق معانـقـا الـهـموم الإنـسانيـة الـكـبـرى؟ طوال عشر سنوات من عُـمر الاستقلال البائس، و المهدي طاقة خلق و إبداع. لا يشغله إلا إعطاء هذا الاستقلال مضمونه التحرري. لم يكن الحزب الذي شـيـده على أنقاض الحزب الوطني القديم إلا قاطرة تحديث، و قاطرة إصلاح أعطاب الهوية. و كل هذا، يتمحور حول بناء إنسان مغربي استعاد تـقـديـره الـذاتـي و حس الـرقـي الحضاري والـنقـد المعـرفـي.  

المهدي يجسد في مغـربنا هـذا الـقـرن، قـرن الصدمات التي جعلت الوطن يستيقظ ليرى حقيقة ملامحه في مرآة الخصم الحضاري. صدمة الاستعمار و صدمة الحداثة و صدمة الخيبة، خـيـبة الاستقلال.

هذه الصدمات، أرادها المهدي، صدمات كهربائية عنيفة تخرج الوطن من سبات قدريته  و سـيـبـته، نحو مشارف المواطنة و الحداثة. أو لم يحفر المهدي بصَمَته في جبين كل هذا؟ ألم يكن مقاوما شرسا للمشروع الاستعماري؟ ألم يكن رسول الحداثة؟ أولم يكن المعبر الجلي و المحلل الصائب لخـيـبات الاستقلال؟ و هذا في الوقت الذي كان خصومه لا يريدون إلا أن يجعلوا من هذه الصدمات مخدرا يفقد الوعي و يقذف بالوطن والمواطن نحو مواسمه الضرائحية، و جذبة تُـفـتـرس فـيها العـتاريس حية تحت سطوة شمهروش المتحكم في الأرواح و الأبدان و العقول.

المهدي، ولادة و حياة و ممات و حتى بعد الممات، يجسد هذا القرن. و كيف لا، و قد ظل حاضرا كل الحضور؟  أتحدى أيا كان يفتح كتبا من كتب تاريخ هذا القرن و لا ينتصب أمامه إسم المهدي؟ حتى كتب الشبه تاريخ، المزوقة ببهلوانية مخزنية مضحكة، نجد فيها إسم المهدي بين الأسطر.

 

الدكتور أحمد بن بنور

 

المهدي بين الشجرة والغابة 

ما كان قرن المهدي الشجرة  تغطي الغابة، و لكنه  الشجرة تدل على الغابة، و تدعوننا لقراءة الغابة  و يا لهول الغابة و أدغال الغابة و وحوش الغابة. و يا لهول هذا السيل الجارف من محاكمات و انقلابات و إعدامات و تازمامرات و تشييد كوميساريات....إنه النزيف. نزيف أمة، فكيف لا نكتشفها اليوم مُصابة بالكساح و فقر الدم، فالذئاب و القوارض و الثعالب جردوا الأشجار من فواكهها، و النخيل من ثماره، و البحار من أسماكها، و حتى الفرشة الأرضية امتصوا مياهها.

و ها نحن اليوم، لا ثمرة و لا تفاحة و لا كوب ماء. فبالله، ما العمل و صحراء القهر و معها عقارب الفقر تـنهـش أحـلامنا و تـدس أشـواكها في مُـقـل أطـفـالـنا ! و تكبر صورة المهدي، و نطرح السؤال بحرقة المرارة، كيف أخطأنا موعدنا مع غد آخر؟ كيف لم نعلم ساعتها أن هياكلنا العتيقة كانت تـفـتـل أسلاك الفخاخ حتى تنصبها لذلك الغد الآخر و ما يحفل به، وما يتمخض عنه؟ هل كنا نياما؟ هل كنا تحت وطأة القدرية الاستسلامية؟ هل كنا مخدريـن بفيض الطلاسم الضرائحية و البخور المواسمية؟ أو لم يخض الشهيد يومها المعركة تلو الأخرى، ضد كل هذه القدرية التي كان يراها لُغـما في سواعدنا و سُـمـا في حـناجر مســتقـبـل أطفـالـنا.

غداة الاستقلال، كان المهدي يشتعل حماسا و يقظة. و كان المغرب مسلحا بأروع نخبة و أشرف نخبة. يا للصورة الوهم! هل كان المهدي يعلم، و كيف يعلم أن خلف كل هذه المشاعل و هذه الشموع، هناك أشباح القرون الغابرة مُجـنـَّـدة بأعيانها خياما و خداما و قبائلا و عشائرا. و مع كل هذا، فيض زاخر من الطبالين و الغياطين و المزمرين. ماذا يستطيعه القرن الجديد في وجه كل القرون الماضية؟ ماذا يستطيعه قرن جديد في وجه كل هذه الطواغيت مجتمعة؟ في وجه كل هذه القرون بضحالة بؤسها و حلقتها المفرغة و سـيـبتها المفزعة؟ ماذا يستطيعه قرن المهدي فـي وجه مغرب مـتـشـبـت حد الانتحار بقـبـيلـته و زواياه المتحجرة روحا و فكرا و أضرحته المتهاوية أطلالا؟ باالله كيف ؟ و كل هذه الشعوذات و معها الطـُّـرقـيات، تختلف أورادا وأذكارا، و لكنها تـتـفـق على المُضي قُـدما نحو حيرة و جدبة لا يسمع فيها إلا زعـيـق الطبول و شهيق الطعاريج و نهـيـق البغال.

ماذا يسـتطـيعه قـرن المهـدي في وجـه كل هذا الإرث بأنانـيتـه و شرهه و عـنفـوان استبداده و جـيشان عدائه المسعـور للرأي المخالف و سبل تـقـصي الممكن الآخر؟ ماذا يستطيعه هذا القرن، أمام أهوال القرون الغابرة مدججة بظلام غـيـرانها و كهوف تعاليمها؟ كيف، و الطريق طافح  بـتاريخ  ينوء تحت وحـلـه، و حلقاته المفرغة، و انسداد أفُـقـه، و ضحالة فطاحلته، و تشبته حد الانتحار بحروز خطتها وتخُـطـها عِظام نخرة؟

الدكتور أحمد بن بنور

  

قـفـوا أيـها الـقـتـلة !

دعونى أستنطقكم أيها الـقَـتـلة : و أنتم تـقـتـلون هذا الرمز الجليل، كيف لم تـنـتـبهـوا أنه زرع بذوره عبر كل الآفاق، فما شأنكم و بذوره تورق مع كل ربيع؟ ويحكم أيها الــقـتـلة كأنكم لا تعلمون أنكم و أنتم تغتالون ذلك الفجر المشرق كنتم تخلعون ثيابكم و تفرجون أمتكم على عريكم! كأنكم لا تعلمون أن الجريمة لم تكن إلا شبح إبليس ساخرا مُقـهـقـها  يـمد يـده ليسقط عنكم أوراق الثوت حتى يعلن براءته من خستكم.

قفوا أيها الـقـتـلة حتى نـتأملكـم جيدا قبل أن يطوح بكم التاريخ في دروبه المتسخة و قمامة أزباله المتعـفـنة. قـفـوا! لا تخفوا ملامحكم فنحن بحاجة لسبر أغوار الملامح المضمخة بقذارة الجريمة. قـفـوا! هذه محكمة التاريخ فالأمة التي لا تحاكم جلاديها، محكومة  بإنجاب جلادين جدد. قـفـوا! فنحن  بحاجة لمعرفة الحقيقة عارية،  بلا أصباغ. فالأمة التي لا تحسن قراءة صفحات العار في تاريخها محكومة بإعادة إنتاج نفس الصفحات بقـيح هوان جديد و صديد ذل مُستأنف.

المؤرخ الذى يريد طي صفحتكم هو مؤرخ كذاب. التاريخ الحق، هو تاريخ الحقيقة. إنه يملي كل الصفحات، مُظْـلمها كما مُـشـرقـها. و لكنه يقـف أكثر عند الصفحات العار،  لأنها محملة بطاقة إسـتئـنـافـيـة تهدد بنسف حلم الحرية و خـنـق أنـفـاس التحرر.

 

الدكتور أحمد بن بنور

رأيت فتاة باهرة تحمل صورة المهدي

أمام مقهى ليب كان لقاؤنا رجالا ونساء يجددون عقدا لا تنفصم عُـراه. هناك، وسط الجمع الكريم استرعى انتباهي وجود فـتاة باهرة الحسن، قد تكون في العشرين من عمرها، تحمل لائحة عليها صورة المهدي ممهورة بهذه الكلمة الفرنسية : "العدالة، الحقيقة". أعترف، كنت أرفع البصر إليها بين الفينة و الأخرى. و كانت تنتصب في وقـفـتها كنخلة مراكشية باسقة و كنت أرى فيها رمزا لجيل جديد، يواصل حمل المشعل و هو المشعل الذي لا ينطفئ. و كيف؟ و هو المسـقـي بزيت التضحية، تضحية الشهيد.    

لماذا لا ننسى المهدى؟  لأنه الأخلاق النقيض، لأنه المشروع  النقيض، لأنه الاستبصار النقيض، لأنه النزاهة النقيض لـفـساد و إ فـساد يضع يداه على البر و البحر و يـبـتـلع الـشجـر، و حـتى، لم لا الحجر!؟

دلوني على مغربي عزيز كريم يفكر ثقافيا أو سياسيا أو أخلاقيا و لا ينتصب أمامه طيف المهدي؟ دلوني على مغربية أو مغربي يتأمل المأزق الذي تـتخـبـط فيه بلادنا و لا يـتـذكـر المهدي؟ دلوني على مغربـيـة أو مغـربـي يـتجرع سُـم الهوان و لا يتذكر ذلك البلسم الذي إسمه المهدي. ماذا غير فـيـنا الـمهـدي؟ لـكـم بـودي الإجابة سـؤالا : هـل نحـن بعـد المهـدي كـما كـنا قـبـل الـمهـدي؟

سُــم الاستبداد و بلسم الشهيد

المهدي قد فشل في كل مشاريعه التحديثية، هذا ما يقال أحيانا. لكن هل كان الرجل يطمح حقا للنجاح أم كان همه الأكبر الحفاظ على المشعل الذي يـُـرشد للأفـق الحلم؟ قد يكون  هناك فـشـل، لكن أليس هذا الـفـشـل المزعوم عنوان انتصار الإرادة النبيلة؟ أو لسنا أمام المحاولة تَـنـقـضُّ بإرادة العزة، ضد القلعة استبدادا مطلقا، ضد الـقـيـد عبودية رعـناء. أو ليست هنا في هذا الرمح المسدد لصدر الباطل تكمن إنسانية الإنسان؟ ماذا لو تذكرنا الدرس البليغ ل" الشيخ والبحر" لهمنغواي، أو لم يصارع الصياد الوحش طوال ثلاثة أيام بلياليها و نهاراتها و لم يعد أخيرا إلا بأشواكه العظمية، فهل كان ذلك فشلا؟ كلا، كان ذلك التعبير الأجل عن إنسانـيـة الإنـسان، الـتـى تـكـمـن فـي الحفـاظ عـلى مـشعل المـحاولة، مـشعـل الـتـحـدي. إن ثـمـار الـنجاح وهْـم، أو ليست تستهلك في اللحظة والـثـو؟  شرارات المقاومة وحدها خالدة، فهي نور يضيء الخواطر و يلهم الإرادات.

ما أكثر ما تـُـدفـن الجريمة مع جُثـة الضحية. و ما أكثر ما يختال المجرم مزهوا بجريمته. لكن الجريمة التى تستهدف روح المقاومة، تجلت أمة هي جريمة لا تموت إلا بموت الأمة. فهل رأيتم أمة تموت؟ أو ليست الجريمة نفسها إلا مؤامرة تستهدف كرامة أمة استعصت على الموت؟

فبالله، كيف ننسى الدرس و كيف ننسى المُـعـلـم المُـدرس؟ يقول شاعر ملهم "اذا رحلت عن قوم و قد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هُـمـوا ".  و إذا فالمهدي ما كان و لن يكون راحلا. نحن الراحلون دوما و أبدا لرحاب تلك الأنفاس الطاهرة، نحن الراحلون دوما وأبدا لذلك النبع الفياض، حـلـم بأصابعه وأصابعنا تـفـجـرت أنهارا تـطـفـئ كـل هـذا الـسراب، وتـحـيـي كـل هـذه الـقـفـار الـموات!

                                

الدكتور أحمد بن بنور