هل كنا نحج لبيت الله الحرام أم ترى لموقع الجريمة الحرام ؟ هناك، أمام المقهى " ليب" كنا نلتقي كأننا نجدد قسم الإخلاص لوصية الشهيد. كنا نتصافح، نتعانق مبتسمين. فهل كانت ابتسامتنا إبتسامة تحد؟ أم ابتسامة تَـشَـف من أهل الغـدر و قد تشتـتـوا مـيـتـيـن؟ و ها نحن اليوم أقـوياء مُجـتمعـين!
ها نحن هناِ وهاهم هناك، أولئك الذين قتلوا الشهيد، فهل كانوا حقا يفعلون؟ أم ترى كانوا يزيحون الستارعن حقيقة هُويتهم؟ هل كانوا يعـون أنهم و هم يتصورون طي صفحة الشهيد لم يكونوا إلا مُدبـجـين لصفحة عارهـم؟ و الدليل، ها هم يتوارون خلف سُــجـف العدم، أما الشهيد فهو المُـشـرق على الدوام، و الحاضر على الدوام. حتى لكأني به يحتل كل فضاءات الفخر فـيـنا. ها هو يمشي بجانبنا في الأسواق يشاركنا أحلامنا و يهمس في آذاننا: "إياكم ثم إياكم أن تعودوا لبيوتكم مساء، و أياديكم ليست نظيفة، إياكم أن تُـقـبلوا أطفالكم و أنفاسكم مُـلطـخة فسادا أو انبطاحا ذليلا. إياكم، فالركوع لغير الله تـقـبـيـل لـتُـراب ملوث بأحذية مُـتـسـخـة."
هل انتصر المتآمرون وقد وضعوا حدا لحياة المهدي؟ يا للنكثة السخيفة، هل قَـتْـل الـرُّقـي إنتصارا؟ هل قـتـل الحرية إنـجازا؟ ذكروني بذلك المفكر الذي قال "المستحيل نسف روح العزة في الإنسان للأبد". ذكروني بذلك الدكتاتور المُـتجـبـر قـهـقه ضاحكا و هو يغتال الحرية و كانت واحدة أحَـدَة، و لكنه اكـتـشفها منـذ الغـد بُـذورا مُـورقـة و حناجر صارخة عـبـر أرجاء امـبراطـوريـته المـداسـة.
في الوقت الذي كان فيه الأقـزام يَـدسون خنجر الغدر في قلب الرجل العملاق. كانوا في نفس الوقت، يحفـرون قبورهم في مقابر المجهولين، حيث تـتـبـول الكلاب الضالة. في ذلك الوقت، كانت الأمة المغربية تشيد صرحا للرجل المغدور. صرحا خالدا في قلوب المغاربة، و قلوب أهل القارات الثلاث، صرحا أرادته هـَـرَم مـجـد لا يـندثـر.
ولادة المهدي و ولادة مغرب آخر
وُلد المهدي مند مائة عام، وهو القرن الأهول في تاريخ المغرب، إنه قـرن الإستعمار المقيت والحركة الوطنية الرائدة و المقاومة الباسلة و الإستقلال الملغوم. فلا قـرن المرابطين و لا قرن الموحدين و لا قرن المرينيين يُـضاهـيه. لماذا؟ لأن كل هذه القرون مجتمعة، كانت قرون المأزق و الانسداد التاريخي. لم يكن الوطن يستعـيـد عافـيـته و يرفع رأسه إلا ليعرف السقوط مجـددا و مـعـه سـيـل الـحـروب و ما شـئـت من فِـتـن و قـلاقـل، قـال عنها الـمؤرخـون "يـشـيـب لها الولدان".
المائة عام الأخيرة، أي حياة المهدي مضاعفة، تعنى قرن المخاض و النهوض. أي الخروج من عـنـق الزجاجة، و الانـفـتاح على الـقـيم التحررية العالم ثالثـيـة. لأول مرة في تاريخه، كان المغرب يحطم الـقـوقـعـة، و يـعانـق الهـموم الـكـونية، و المـهـدي هـو التجـسـيد الأكبر لهذا التوق رفعة.
هل كان المهدي يحضر لمؤتمر القارات الثلاث أم كان يحضر لمغرب يخرج من نـتـانـة الانغلاق معانـقـا الـهـموم الإنـسانيـة الـكـبـرى؟ طوال عشر سنوات من عُـمر الاستقلال البائس، و المهدي طاقة خلق و إبداع. لا يشغله إلا إعطاء هذا الاستقلال مضمونه التحرري. لم يكن الحزب الذي شـيـده على أنقاض الحزب الوطني القديم إلا قاطرة تحديث، و قاطرة إصلاح أعطاب الهوية. و كل هذا، يتمحور حول بناء إنسان مغربي استعاد تـقـديـره الـذاتـي و حس الـرقـي الحضاري والـنقـد المعـرفـي.
المهدي يجسد في مغـربنا هـذا الـقـرن، قـرن الصدمات التي جعلت الوطن يستيقظ ليرى حقيقة ملامحه في مرآة الخصم الحضاري. صدمة الاستعمار و صدمة الحداثة و صدمة الخيبة، خـيـبة الاستقلال.
هذه الصدمات، أرادها المهدي، صدمات كهربائية عنيفة تخرج الوطن من سبات قدريته و سـيـبـته، نحو مشارف المواطنة و الحداثة. أو لم يحفر المهدي بصَمَته في جبين كل هذا؟ ألم يكن مقاوما شرسا للمشروع الاستعماري؟ ألم يكن رسول الحداثة؟ أولم يكن المعبر الجلي و المحلل الصائب لخـيـبات الاستقلال؟ و هذا في الوقت الذي كان خصومه لا يريدون إلا أن يجعلوا من هذه الصدمات مخدرا يفقد الوعي و يقذف بالوطن والمواطن نحو مواسمه الضرائحية، و جذبة تُـفـتـرس فـيها العـتاريس حية تحت سطوة شمهروش المتحكم في الأرواح و الأبدان و العقول.
المهدي، ولادة و حياة و ممات و حتى بعد الممات، يجسد هذا القرن. و كيف لا، و قد ظل حاضرا كل الحضور؟ أتحدى أيا كان يفتح كتبا من كتب تاريخ هذا القرن و لا ينتصب أمامه إسم المهدي؟ حتى كتب الشبه تاريخ، المزوقة ببهلوانية مخزنية مضحكة، نجد فيها إسم المهدي بين الأسطر.
المهدي بين الشجرة والغابة
ما كان قرن المهدي الشجرة تغطي الغابة، و لكنه الشجرة تدل على الغابة، و تدعوننا لقراءة الغابة و يا لهول الغابة و أدغال الغابة و وحوش الغابة. و يا لهول هذا السيل الجارف من محاكمات و انقلابات و إعدامات و تازمامرات و تشييد كوميساريات....إنه النزيف. نزيف أمة، فكيف لا نكتشفها اليوم مُصابة بالكساح و فقر الدم، فالذئاب و القوارض و الثعالب جردوا الأشجار من فواكهها، و النخيل من ثماره، و البحار من أسماكها، و حتى الفرشة الأرضية امتصوا مياهها.
و ها نحن اليوم، لا ثمرة و لا تفاحة و لا كوب ماء. فبالله، ما العمل و صحراء القهر و معها عقارب الفقر تـنهـش أحـلامنا و تـدس أشـواكها في مُـقـل أطـفـالـنا ! و تكبر صورة المهدي، و نطرح السؤال بحرقة المرارة، كيف أخطأنا موعدنا مع غد آخر؟ كيف لم نعلم ساعتها أن هياكلنا العتيقة كانت تـفـتـل أسلاك الفخاخ حتى تنصبها لذلك الغد الآخر و ما يحفل به، وما يتمخض عنه؟ هل كنا نياما؟ هل كنا تحت وطأة القدرية الاستسلامية؟ هل كنا مخدريـن بفيض الطلاسم الضرائحية و البخور المواسمية؟ أو لم يخض الشهيد يومها المعركة تلو الأخرى، ضد كل هذه القدرية التي كان يراها لُغـما في سواعدنا و سُـمـا في حـناجر مســتقـبـل أطفـالـنا.
غداة الاستقلال، كان المهدي يشتعل حماسا و يقظة. و كان المغرب مسلحا بأروع نخبة و أشرف نخبة. يا للصورة الوهم! هل كان المهدي يعلم، و كيف يعلم أن خلف كل هذه المشاعل و هذه الشموع، هناك أشباح القرون الغابرة مُجـنـَّـدة بأعيانها خياما و خداما و قبائلا و عشائرا. و مع كل هذا، فيض زاخر من الطبالين و الغياطين و المزمرين. ماذا يستطيعه القرن الجديد في وجه كل القرون الماضية؟ ماذا يستطيعه قرن جديد في وجه كل هذه الطواغيت مجتمعة؟ في وجه كل هذه القرون بضحالة بؤسها و حلقتها المفرغة و سـيـبتها المفزعة؟ ماذا يستطيعه قرن المهدي فـي وجه مغرب مـتـشـبـت حد الانتحار بقـبـيلـته و زواياه المتحجرة روحا و فكرا و أضرحته المتهاوية أطلالا؟ باالله كيف ؟ و كل هذه الشعوذات و معها الطـُّـرقـيات، تختلف أورادا وأذكارا، و لكنها تـتـفـق على المُضي قُـدما نحو حيرة و جدبة لا يسمع فيها إلا زعـيـق الطبول و شهيق الطعاريج و نهـيـق البغال.
ماذا يسـتطـيعه قـرن المهـدي في وجـه كل هذا الإرث بأنانـيتـه و شرهه و عـنفـوان استبداده و جـيشان عدائه المسعـور للرأي المخالف و سبل تـقـصي الممكن الآخر؟ ماذا يستطيعه هذا القرن، أمام أهوال القرون الغابرة مدججة بظلام غـيـرانها و كهوف تعاليمها؟ كيف، و الطريق طافح بـتاريخ ينوء تحت وحـلـه، و حلقاته المفرغة، و انسداد أفُـقـه، و ضحالة فطاحلته، و تشبته حد الانتحار بحروز خطتها وتخُـطـها عِظام نخرة؟
قـفـوا أيـها الـقـتـلة !
دعونى أستنطقكم أيها الـقَـتـلة : و أنتم تـقـتـلون
هذا الرمز الجليل، كيف لم تـنـتـبهـوا أنه زرع بذوره عبر كل الآفاق، فما شأنكم و بذوره
تورق مع كل ربيع؟ ويحكم أيها الــقـتـلة كأنكم لا تعلمون أنكم و أنتم تغتالون ذلك
الفجر المشرق كنتم تخلعون ثيابكم و تفرجون أمتكم على عريكم! كأنكم لا تعلمون أن
الجريمة لم تكن إلا شبح إبليس ساخرا مُقـهـقـها
يـمد يـده ليسقط عنكم أوراق الثوت حتى يعلن براءته من خستكم.
قفوا أيها الـقـتـلة حتى نـتأملكـم جيدا قبل أن يطوح بكم التاريخ في دروبه المتسخة و قمامة أزباله المتعـفـنة. قـفـوا! لا تخفوا ملامحكم فنحن بحاجة لسبر أغوار الملامح المضمخة بقذارة الجريمة. قـفـوا! هذه محكمة التاريخ فالأمة التي لا تحاكم جلاديها، محكومة بإنجاب جلادين جدد. قـفـوا! فنحن بحاجة لمعرفة الحقيقة عارية، بلا أصباغ. فالأمة التي لا تحسن قراءة صفحات العار في تاريخها محكومة بإعادة إنتاج نفس الصفحات بقـيح هوان جديد و صديد ذل مُستأنف.
المؤرخ الذى يريد طي صفحتكم هو مؤرخ كذاب. التاريخ الحق، هو تاريخ الحقيقة. إنه يملي كل الصفحات، مُظْـلمها كما مُـشـرقـها. و لكنه يقـف أكثر عند الصفحات العار، لأنها محملة بطاقة إسـتئـنـافـيـة تهدد بنسف حلم الحرية و خـنـق أنـفـاس التحرر.
رأيت فتاة باهرة تحمل صورة المهدي
أمام مقهى ليب كان لقاؤنا رجالا ونساء يجددون عقدا لا تنفصم عُـراه. هناك، وسط الجمع الكريم استرعى انتباهي وجود فـتاة باهرة الحسن، قد تكون في العشرين من عمرها، تحمل لائحة عليها صورة المهدي ممهورة بهذه الكلمة الفرنسية : "العدالة، الحقيقة". أعترف، كنت أرفع البصر إليها بين الفينة و الأخرى. و كانت تنتصب في وقـفـتها كنخلة مراكشية باسقة و كنت أرى فيها رمزا لجيل جديد، يواصل حمل المشعل و هو المشعل الذي لا ينطفئ. و كيف؟ و هو المسـقـي بزيت التضحية، تضحية الشهيد.
لماذا لا ننسى المهدى؟ لأنه الأخلاق النقيض، لأنه المشروع النقيض، لأنه الاستبصار النقيض، لأنه النزاهة النقيض لـفـساد و إ فـساد يضع يداه على البر و البحر و يـبـتـلع الـشجـر، و حـتى، لم لا الحجر!؟
دلوني على مغربي عزيز كريم يفكر ثقافيا أو
سياسيا أو أخلاقيا و لا ينتصب أمامه طيف المهدي؟ دلوني على مغربية أو مغربي يتأمل
المأزق الذي تـتخـبـط فيه بلادنا و لا يـتـذكـر المهدي؟ دلوني على مغربـيـة أو مغـربـي
يـتجرع سُـم الهوان و لا يتذكر ذلك البلسم الذي إسمه المهدي. ماذا غير فـيـنا الـمهـدي؟
لـكـم بـودي الإجابة سـؤالا : هـل نحـن بعـد المهـدي كـما كـنا قـبـل الـمهـدي؟
سُــم الاستبداد و بلسم الشهيد
المهدي قد فشل في كل مشاريعه التحديثية، هذا ما يقال أحيانا. لكن هل كان الرجل يطمح حقا للنجاح أم كان همه الأكبر الحفاظ على المشعل الذي يـُـرشد للأفـق الحلم؟ قد يكون هناك فـشـل، لكن أليس هذا الـفـشـل المزعوم عنوان انتصار الإرادة النبيلة؟ أو لسنا أمام المحاولة تَـنـقـضُّ بإرادة العزة، ضد القلعة استبدادا مطلقا، ضد الـقـيـد عبودية رعـناء. أو ليست هنا في هذا الرمح المسدد لصدر الباطل تكمن إنسانية الإنسان؟ ماذا لو تذكرنا الدرس البليغ ل" الشيخ والبحر" لهمنغواي، أو لم يصارع الصياد الوحش طوال ثلاثة أيام بلياليها و نهاراتها و لم يعد أخيرا إلا بأشواكه العظمية، فهل كان ذلك فشلا؟ كلا، كان ذلك التعبير الأجل عن إنسانـيـة الإنـسان، الـتـى تـكـمـن فـي الحفـاظ عـلى مـشعل المـحاولة، مـشعـل الـتـحـدي. إن ثـمـار الـنجاح وهْـم، أو ليست تستهلك في اللحظة والـثـو؟ شرارات المقاومة وحدها خالدة، فهي نور يضيء الخواطر و يلهم الإرادات.
ما أكثر ما تـُـدفـن الجريمة مع جُثـة الضحية. و ما أكثر ما يختال المجرم مزهوا بجريمته. لكن الجريمة التى تستهدف روح المقاومة، تجلت أمة هي جريمة لا تموت إلا بموت الأمة. فهل رأيتم أمة تموت؟ أو ليست الجريمة نفسها إلا مؤامرة تستهدف كرامة أمة استعصت على الموت؟
فبالله، كيف ننسى الدرس و كيف ننسى المُـعـلـم المُـدرس؟ يقول شاعر ملهم "اذا رحلت عن قوم و قد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هُـمـوا ". و إذا فالمهدي ما كان و لن يكون راحلا. نحن الراحلون دوما و أبدا لرحاب تلك الأنفاس الطاهرة، نحن الراحلون دوما وأبدا لذلك النبع الفياض، حـلـم بأصابعه وأصابعنا تـفـجـرت أنهارا تـطـفـئ كـل هـذا الـسراب، وتـحـيـي كـل هـذه الـقـفـار الـموات!
الدكتور أحمد بن بنور