كلما فتحت حسابي في الفيسبوك، كلما اصطدمت
بهذه الصورة، لهذه الفتاة التي من كثرة ما أعرفها أجد نفسي متسائلا : من تكون ؟
لكن أليس سؤالي هذا يتضمن بعدا فرويديا خبيثا ، يستهدف تبرئة الذات من التواطؤ مع
منظومة القهر والفقر في بلادنا ؟ وإذا علي من موقع النزاهة الأخلاقية أن أجيب :
تعم أعرف هذه الفتاة حق المعرفة ، إنها نفسها التي ألتقيها في قرانا البائسة ، في أحيائنا الفقيرة ، إنها
نفسها التي اصطدم بها خادمة مسلوخة في بيوت من يعتبرون أنفسهم أكابر، إنها نفسها
التي ألتقيها في الساحات العامة تمد لنا يدا مرتعشة ، إنها نفسها التي نلمحها
عابرة في رقصة الهوان بين سطل ماء وخرقة متسخة تنظف البلاط وتغسل الصحون في المقاهي والمطاعم
....
طفولة الأيتام في مآدب اللئام .....
إنها
خديجة إنها فاطمة إنها نعيمة ، إنها نفسها أمينة التي زوجها القضاء الفاسد
لمغتصبها ، ولكنها أمام مسلسل الهوان والذل فضلت سم الفئران، تم غادرت في صمت عالم
العدالة المتخلفة عالم مص الدماء وكنس الجيوب ، عالم الجبناء الذين لا يترددون
في ذبح طفلة قربانا على معبد الأنانية السكرى بخمرة حقوقها المطلقة .
هذا الرعب في عيني هذه الطفلة ، قد يقول أن
والدها عاطل عن العمل ، وربما طريح الفراش، وأن أمها غائبة عن البيت، فهي تشتغل
" صبانة " طوال يومها ، وأن إخوتها يتضورون جوعا وأن الفتاة الصغيرة
تخطو خطواتها الأولى نحو دنيا الكبار، أي دنيا الأغوال والأنياب حيت المناجل
الحادة تحصد السنابل والأصابع والأحلام ..
هذه
الصورة لهذه الفتاة، تلخص مأساة الطفولة المهشمة، تأملوا هذه الملامح البريئة
برقصة الخوف في العينين، ماذا لو غصنا لحظة في هذه النظرة ؟ ألا نكتشف الفتاة
الصغيرة وهي على أعتاب الأنوثة ترتعش هولا مما ينتظرها ؟ إنها لا تعرف كيف تشق طريقها
بين كل هذه الذئاب التي تتربص بها الدوائر: ذئاب الإنتاج الذين يريدونها تشحيما
لمكانزمات إنتاجهم تراكما لثرواتهم . وذئاب الجنس أي هؤلاء الذين يشحذون أنيابهم
لتمزيق عرضها تمريغا في وحل النخاسة والدعارة..
الذي
التقط هذه الصورة لا أعرف إذا كان مصورا محترفا أم هاويا ؟ ولكنى أعرف يقينا أنه
يمتلك روحا على جانب كبير من الحساسية الفنية المرهفة ، إنه يتوفر على هذه
الأحاسيس التي تجعل صاحبها شاعرا أم مصورا أم روائيا يلتقط بحدس لا يخطئ الهدف،
لحظة ما ، لكنها ليست ككل لحظة ، لمحة ما ولكنها ليست ككل لمحة ، ولكنها ببساطة
تلخص الظرف الإنساني ، إنها تختزل في نظرة ، في بسمة ، في تسريحة شعر، في قميص
مهلهل ، في حذاء متعب ، كل الحكايات ، كل الآهات ، التي لم تصلنا بعد لأن هياكل
القهر سلبت منا ومن أصحابها لغة التعبير، والحق في الكلمة، لغة الرسم والحق في
الرسم ، لغة النحت والحق في النحت...
هذه الفتاة مرة أخرى ، ترمز للأجيال الصاعدة
المهمشة ، لكن هل التهميش يقف هنا ؟ أو ليست خارطة التهميش تمتد على امتداد هذا
الوطن المرقع ؟ أو ليس الرجال الأحرار مهمشون ؟ أو ليست النساء الأبيات مهمشات ؟
أو ليست الإرادة الوطنية مهمشة وإن لا فمكبلة ؟
إنه الاستبداد متبولا........
وتتحول صورة الطفلة الصغيرة إلى صورة أهول: هذا
الهلع في عينيها أليس هلع الأمة كل الأمة وهي ترى نفسها متخبطة في هوان هذا الشره
الذي يمتص بلا رحمة رحيق براعمها : تنمية
ورغيفا وعملا وتعليما وعلما .. ؟؟؟
أليس
الذعر في عيني هذه الطفلة هو نفسه الذعر في عيون كل الأمهات وكل الآباء خوفا من
الغد المظلم الذي ينتظر ذريتهم ؟ أو ليس الذعر في عيني هذه الطفلة هو ذعر الضحية
بين أشداق الذئب ؟ وإذا فهذه النظرة نظرة استنجاد ، فالغول يهدد بالتهامها مضغة
مضغة ..
ها نحن نراها تتلوى ألما وهوانا وغصصا متلاحقة..
بعض الأصوات الشريفة تنطلق من هنا وهناك ،
ساخطة منددة ، لكننا في أغلبيتنا نقف موقف المتفرج ، فالشريط شيق وجسد الطفلة الغض
بين الأشداق يغري بالتفرج .. إننا نتفرج إذا حتى آخر لقطة وآخر لقمة..
وعندما
تكون الطفلة قد التهمها ذئبها حتى آخر مضغة ، ساعتها نضغط على الزر، نغير المشهد
مادام ليس إلا افتراضيا ، ونعود لحكاياتنا متجشئين جبنا وتواطؤا مقيتا .. فنحن
كثقافة متخلفة لم نستبطن بعد عاطفة الغضب، وعاطفة السخط ضد التهام الأجساد البريئة،
لم نستبطن عاطفة الاحتجاج ، عاطفة الاستنكار، عاطفة التنديد ، عاطفة الحق في التمرد
على وقاحة الاستبداد متبولا في عز النهار على أرواحنا وحضارتنا وفلذات أكبادنا
.......
الدكتور أحمد بن بنور