لا غرو أن الديمقراطية تستفيد من مغامرات انحرافاتها. لذلك، فهي بحاجة لدكتاتور وقح من هذا الصنف، يشيد صروح الهذيان. أو ليس هذا الذي يجعل الديمقراطية تنتفض، لتدك الصروح الشتاِئمية حتى تستأنف مسيرتها، و قد تحصنت في وجه قطاع الطرق، تشييدا مجددا لصروح القانون سيدا، يعلو ولا يُعـلى عليه!
إن الزحف المخجل على الكابتول، تاج الديمقراطية الأمريكية، ليس إلا تعـرية ترومب ومسح مساحيقه الزائفة. المغفلون الذين لم يقتنعوا بعد، كانوا يفركون أعينهم دهشة وهم يكتشفون القائد المبجل، غوغائيا، مهرجا، سطا على السلطة في لحظة كان التاريخ يتمتم بين الاستمرارية أم القطيعة. كانت أمريكا يومها أمام ساندرز متسائلة : هل تعمق الهوية الديمقراطية، أم ترى تختار الانـقـذاف في كنف المجهول ؟ وتحت ثِـقـل تاريخ مضمخ بالعبودية والأنانية القومية، والهيمنة الإمبريالية، وسحق السكان الأصليين، اختارت أمريكا الانقذاف في كنف المجهول، فسلمت عنان قيادتها للزعيم المجهول.
ما أروع لغتنا العربية في اشتـقـاقـاتها المُبهرة، فالمجهول ليس اللا معروف، أو اللا محدد، أو العديم الهوية وكفى، ولكنه الجهل والجهالة معنى ومبنى! أي غياب المعرفة، وسيادة الأمية الثقافية. والغريب أن لغتنا الدارجة المغربية، في استلهامها وتفاعلها مع اللغة العربية، إستولت على هذه الكلمة، لتعطيها معنى لم يخطر على بال، وهكذا فالمجهول يأخذ منعطفا خطيرا ليصبح المسعور، إصابة بداء الكلب.
"ها أنت وحيدا يا حضرة الرئيس. و هذه شعوذتك
و أباطيل شرورك، تنفجر قنابل نتنة بين أصابعك، فاحصد ما زرعته يسراك و يمناك، و اخبز
ما عجنته أو رفسته قدماك."
"ها أنت وحيدا يا حضرة الرئيس. و هذه شعوذتك
و أباطيل شرورك، تنفجر قنابل نتنة بين أصابعك، فاحصد ما زرعته يسراك و يمناك، و اخبز
ما عجنته أو رفسته قدماك."
هل نستغرب أن سيادة الرئيس، منذ وطأت قدماه أرض البيت الأبيض، ما انفك يرسم صورته حتى يخرج من دائرة المجهول نحو الأجهل. و لأن الرجل يملك طاقة وقاحة تزوجت طاقة ثقة بالنفس حد جنون العظمة، فإنه ساعتها لم يعد من حاجز في وجهه، أكان ماديا أم أخلاقيا. إنه بلا منازع الأقوى والأبهى، إنه المُخول له بتفويض من سدرة المنتهى. وإذا فإنه لا يحكم أمريكا وكفى، بل كل العالم يجب أن يركع حمدا وتسبيحا لشخصه المزدان بالهالة الربانية اليسوعية التوراتية.
رقصة السيف أم رقصة انتحار حضارة؟
يالسخرية القدر، عندما نعود بالنظر حسيرا. غداة تـنصيـبه رئيسا لأم الإمبراطوريات. يومها، اكتشفناه في العربية السعودية يرقص مع مدبري شأنها، رقصة السيف. رأيناه ورأيناهم شاهرين سيوفهم. يا للصورة الهول، كنا يومها نقول: هؤلاء الناس يضعون السيف بيد هذا الرجل حتى يجهز على حقوقنا، حتى يطعن ظهرا وصدرا أشرف قضية في حلبتنا، حتى يخنق في المهد حلمنا الديمقراطي. كانت الرسالة جلية تقول بأفصح عبارة: هذه سيوفنا مع معاوية، وهذه قلوبنا ما كانت ولن تكون معكم ! ساعتها كنا نشعر بالخجل من صورتنا، كنا نضع أيادينا على وجوهنا. و كيف لا و قد خننا رسالة الله؟ قال لنا جل جلاله كونوا خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر. فقلنا: كلا، نكون أذل أمة أخرجت للناس، تأمر بالمنكر وتنهى عن الشهامة.
منذ رقصة السيف تلك، رأينا الرئيس الأعظم، والقائد الغضنفر يعود لبيته الأبيض. رأيناه يشهر وثيقة المدينة المنورة، وثيقة عبودية وطاعة عمياء. رأيناه ضاحكا، مقهقها يشعل حربه ضد الإسلام والمسلمين. يمنع هؤلاء من دخول الأرض الأمريكية المباركة، وإعلان القدس مدينة إسرائيلية مطهرة، و في نفس الوقت، رأيناه يعطى رفيقه نتانياهو كل الصلاحيات لسحق الفلسطينين : تجويعا و نهبا و قتلا و استيطانا و تخريبا للبيوت، فوق رؤوس أناس لا حق لهم في أرضهم، فهي منذ اليوم ملكية توراتية، قدسيتها ما كانت ولن تكون محط جدل أو تفاوض أو أدنى تساؤل.
و طوال هذه الخطوات الإجرامية، كان جنود معاوية يرفعون المصاحف على أسنة الرماح، كأنما تنصلا مما تقوله المصاحف. فهذه لا تساوي كلمة إنجيلية ولا توراتية واحدة. وكانوا في غمرة نشوتهم يصفقون، يعلنون طاعتهم العمياء، يسبحون بكرة وأصيلا بحمد الزعيم. وكان القائد الغضنفر ينظر باستهزاء لهؤلاء العربان، الذين لا هم عرب عاربة، ولا مستعربة، فكيف يحضون بأدنى اعتبار، ولا أدنى وزن، وهم العرب الغاربة.
لكن هذا موضوع لا يستحق درة اهتمام. وكيف لا، و الزعيم في أوج مجده و جبروته. إنه في الطريق لتدجين الديمقراطية، أو ليس الرئيس مدى الحياة ؟ حتى إذا غادر هذه الحياة تركها إرثا مقدسا للعزيز جاريد، ثم بعد هذا للعزيزة إفنكا، الإبنة المدللة.
الكتاب المقدس فوق الدستور المسخ
كيف له إذا أن يرضى بهذا الدستور المسخ؟ الذى يجب أن يكون أسفل الكتاب المقدس، فهذا وحده يعد بإرث الأرض واستعباد من هم على ظهرها، بشرا و كنوزا و حجرا. كيف له أن يقبل نتائج الانتخابات، هذه اللعبة المسرحية التى فـُـصٍّلت على مقاس القامات القزمية، فكيف ينطبق هذا عليه وهو العملاق الجبار؟
وفي ظل هذه الاستيهامات التي صاغها أوامرا، لزمرة من أنصاره العنصريين ليزحفوا على الكابتول. ساعتها، كانت الديمقراطية الأمريكية تكتشف فداحة المصاب، فانتفضت مسددة صفعة لا تنسى على الوجه الصفيق. لرجل لعبت نشوة السلطة برأسه، فلم يعد يميز أهذه الأرض أرضا أم هذه السماء سماء؟ ثم، إذا كانت هذه جنتنا نحن البيض، فماذا تنتظر جهنم حتى تبتلع كل هؤلاء السود، وهؤلاء المسلمون. و في كلمة، كل الحفاة، العراة، الذين لا مكان لهم في ملكوت العجل الذهبي، دام له المجد والسؤدد.
إنه اليوم و حيدا في بيته الأبيض المحمر خجلا. لا أحد يصافحه، لا أحد يقترب منه. إنه المجدوم يهدد بالعدوى. ومع ذلك، فإن الأسطورة تقول أن طفلا، بعضهم يقول إنه فلسطيني، بينما البعض الآخر يقول إنه يمني. المهم أن هذا الطفل، ربما لأنه مسلح ببراءة الأطفال في عينيه الطافحتين دموعا، لذلك فـقـد تمكن من اختراق صفوف الحرس، مقتحما البيت الأبيض، حتى إذا وقف أمام ترومب، أخرج من تنايا أسماله الممزقة بوقع القنابل هدية قدمها للرئيس، ثم انسحب بهدوء. فتح الرئيس الهدية. فوجدها أسطوانة قديمة، وضعها في الفنوغراف، وما أن صافحت الشوكة آهات المعاناة، حتى انطلق صوت أميرة الطرب العربي مجلجلا، لم يلبث ان هز هذه "الأطلال"، ومعها أركان البيت الأبيض :
يا فؤادي لا تسل أين أيام الهوى كان صرحا من خيالي فهوى
أسقنى واشرب على أطلاله واروي عني طالما الدمع روى.
لكن المقطع الذي كان له أكبر صدى لهو، ذاك المتجاوب هديرا مع تأوهات النحـيـب الـفـاشـي العنصري :
وبريق يضمأ الساري له أين من عينيك ذياك البريق.