تناقلت صحافتنا الوطنية هذا الخبر الذي تتزعزع له الجبال. يقول بأن إمرأة تجرأت و بوقاحة قل نظيرها، فمدت يدا لا مرتعشة لتسرق بيض مُشغـلها! و منذ الغد، كان الرجل صاحب البيض المسروق، أمام المحكمة بمحام غضنفر يمينا، و محام مُـتـنمر شمالا. و كان لا يريد إلا عقابا يتناسب بالعدل و القسطاس مع هول الجريمة. لذلك، كان جوابه مُفـحـما عندما سأله القاضي: " ياحضرة السي الحاج، هذه المرأة سرقت لك سلة بيض. فهل تُـتابعها أم تعـفوعنها و أنت الذي يملك الآلاف المؤلفة من السِّلل المصدرة لكل المِلل و النِّحل؟ كلا سيدي القاضي، أجاب السي الحاج:" لا تهمني السُّـلـيِّلة المسروقة، و لكن الذي يهمني لهو خيانة الأمانة ! ثم، إن المثل الفرنسي يقول: "إن الذي يسرق بيضة يسرق ثورا". فما بالكم بامرأة سرقت ستة عشر بيضة؟ إن هذا يعني ستة عشر ثور. فكيف أسكت عن هذا و بإسطبلاتي آلاف الثيران و آلاف العجول و آلاف الأبقار؟ من يضمن لي حمايتها من قاطعات و قـُطاع الطرق ؟ لذلك، فإني أنتظر من محكمتكم الموقرة أن تكون راعية لأبقاري و ثيراني، و مع هذا أغنامي، فـتهُـش عليها بعصاها التي لها فيها مآرب أخرى، أنا كفيل بها واضحا ومرموزا."
انفرجت أسارير القاضي، فتحولت ابتسامة طالت و تمددت حتى ضمت أذنا للأخرى. التفت سيادته نحو المرأة المتهمة، فقال بلهجة لا تخلو من ازدراء: " كيف خُـنت الأمانة فسرقت سيدك، و قد فضله الله عليك في الرزق ؟ كيف تعُـضين اليد التي تطعمك ؟ أو ليس حريا بك أن تكوني وفية طائعة خانعة، كالميت بين يدي غـسَّاله، يُـشغـلـك كيف ما شاء، و أين يشاء و متى ما شاء؟". لكن المرأة لم تكن تملك جوابا، كانت تـتعـتر في أذيالها، و كان لسانها يتعتر بين شفتيها، و كانت تُـغـمغم وتُـدمدم بكلام لا مفهوم.
أنا المحامية الإدريسية
و في تلك اللحظة، و أمام دهشة الجميع تقدمت إمرأة مشرقة كالفجر فقالت : " أنا المحامية الإدريسية، أتطوع دفاعا عن المتهمة ! ". و انطلق صوتها أو بالأحرى إنطلقت أصواتها كحجارة تُـلقى في مستنقع راكد، كأني بها نبي ينذر قومه : " ويحكم إنكم في ضلالكم هذا، إنكم تـُلغمون حضارتكم و تمضون نحو خرابكم."
" سيدي القاضي، لو جاؤوا بهذه المرأة و المسروق بين يديها إلى رب العمل، وكان رجلا شهما وكريما لصرخ في وجههم غضبا : أخلوا سبيل هذه المرأة. ثم بعد هذا يتوجه للمرأة المذكورة فيقول لها : إحتفظى سيدتي بما أخذته فهو حلال عليك. ثم، ما أن انصرف هؤلاء على أطراف أصابع أقدامهم حتى رفع الرجل الصالح يداه للمولى : " ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي و أن أعمل صالحا ترضاه."
"هذا ما يفعله الرجل الصالح، لكن هل تعـلمون مايفعله الرجل الطالح؟ إنه يملأ الدنيا زعيقا و صراخا : عُـوك عـــُوك ياعباد الله ! حتى لكأني بعماله و خدمه و حشمه يهرعون متسائلين : أية عقرب أو أفعى سدَّدت أنيابها لتدسها بين لحمه وعظمه؟ و لكنهم يكتشفون و يالهول ما يكتشفون، إنه يتلوى غيضا تحت حر جمر جلس عليه فاحترقت مساسيطه. إنه يصرخ : هذه اللصة الملعونة سرقت سلة بيض كاملة، أي ما مجموعه ستة عشر بيضة بالتمام و الكمال. إني أستدعي في اللحظة و الثو رجال البوليس والجندرمية. ثم، بعدها سأستنجد بأهل الحل والعقد و أمْلي عليها أمري المطاع حتى يُخرجون مناجلهم لقطع يد السارقة، و مع هذا حبالهم لشنقها في الساحة العامة، حتى تكون عبرة لمن لا يعتبر.
و واصلت المحامية : "سيدى القاضي، هذه المرأة ما كانت مذنبة و لا كانت لصة، و لكنها مدت يدها لتستعيد جزء يسيرا مما سرق من مُرتبها، من حقها في تضامن إجتماعي كريم، من حقها في صحة تقيها غوائل الدهر، من حقها في تقاعد يسترها من ذل السؤال. أي كل هذا الذي هي محرومة منه. فبالله سيدي القاضي، من اللص ؟ من الذى خان الأمانة ؟ هل هذه المرأة المحرومة من كل حقوقها ؟ أم هذا المتبجح بثرواته الطائلة، و المطالب بإنزال العقاب على إمرأة بريئة. فسعادته كل السعادة، تشتيت و تجويع أولادها، وتهديم عش بيتها ؟ أو ليس هذا المنفوخ عجرفة هو الذي يجب أن يكون في قـفـص الاتهام ؟
بيضتان لكل رجل لا أكثر
صرخ القاضى محاولا إسكات صوت المحامية الإدريسية، لكن هذه المرأة وبكل العزة غُـصصا في حلق امرأة وقعت وثيقة لا تنفصم أواصرها مع الحق. صرخت بصوت مجلجل : " إن محاولة إسكات صوت الحق، لهو تواطؤ مكشوف مع الباطل. كلا و ألف كلا، هذه المتهمة زورا ماكانت لصة ولا مذنبة. كلا و ألف كلا، إنها لم تحاول إلا تخليص هذا الرجل ببعض من شحومه. فلنتوقف حضرتكم عن هذا البيض المسروق وحقيقته. لعلكم تعلمون أن الله جل جلاله وزع البيض بالقسطاس على الرجال، لكل واحد بيضتين، وأنتم حضرتكم سيدى القاضي، لا تملكون أكثر من بيضتين! فكيف يعتدي هذا الرجل على شرع الله، مكدسا عشرات الآلاف من البيض فوق ظهره و بين فخذيه و في بطنه. و كما تعلم حضرة القاضى، فإن البيضتين للرجل رمز رجولة و أنفة و شهامة وفحولة. فإن تضخم البيض تناسلا، فإنه ساعتها يأكل الرجولة ويلتهم الشهامة و يفترس الفحولة، و دليلي فيما أقول، هذا الرجل الواقف أمامكم يريد لهذه المرأة خرابا و دمارا، هل كان يفعل لو كان يملك بعض شهامة و بعض مروءة؟
تكاثر البـيـض على الـبـيـاض
فـلا يدرى أيـبـيـض أم يـحـيض
" و كَما تفعل الخمرة برأس صاحبها، كذلك هذا الرجل، كذلك أطنان البيض في مخ صاحبها، لقد هزته النشوة البيضية حد أن لا يريد من العدالة إلا أن تكون راعية لأبقاره. إنه أصبح يتصور أنه يبيض ذهبا، و إذا فهو، لا دجاجة و لكنه ملاك كريم، فكيف يسمح بيد بشرية جائعة تريد الاستيلاء خلسة على بيضة من هذه النعمة التي لا ينعم بها الله إلا على القانتين الصالحين من عباده ؟
سيدى القاضى، هذه المرأة الماثلة أمامكم من العار أن نسميها لصة و اللص الحقيقى يختال مزهوا بملاييره أمامكم. هذه المرأة قامت بعمل خيري، قصدت به التخفيف على هذا الرجل من أعباء بيض، حتى أصبح وكلما مر إلا و خلف وراءه عاصفة انفجارات مدوية، تزكم الأنوف و تخنق الأنفاس.
" يقول إنها خانت الأمانة، فعن أية أمانة يتحدث هذا الرجل، و هل من أمانة إلا مُـتـبادلة؟ فهل الفقير وحده المطالب بحفظ الأمانة، أما الغني فمن حقه دوسها ؟ أو لسنا هنا في عز الأنانية المقيتة التي ليست إلا انبطاحا لأهل المال وما يسمى بالجاه ؟ أو ليست الأمانة هذه الهبة الربانية، التي عكس الجن و الجبال، وحده الإنسان اضطلع بها لأنه المُستخلف في الأرض ؟
"سيدى القاضي، إن العدالة ليست شيئا أخر إلا هذه الأمانة و القاضي هو ضمير الحضارة و الحاضرة، وإن تلوث ضمير القاضي، فإن هذا يعني تدحرج الحاضرة من علياء سماواتها نحو حضيض جشعها و غرائزها و انحطاطها. و إذا فإني أطالبكم باستحضار ضميركم، روح عدالة و روح أخلاق و روح عزة. لا قانونا مخدوما، لا بنودا مهترئة، لا فصولا ملغومة."
ثم اختتمت المحامية اللامعة مرافعتها النيرة، بصوت زعزع أركان الخيمة العـتيدة : " سيدي القاضي، إني أطالب بحكم عادل في حق المتهم، لا سجنا، و لكن تجريدا من كل هذا البيض، حتى لا يتبقى له إلا بيضتين، فلعل ذلك يعيد له كامل رجولته، و معها بعض شهامة ونُـبـل مروءة ".
كان القاضي كأنما لا يستمع، كأنما غائبا عن الوعي. ذلك أنه خلال مرافعة الأستاذة الإدريسية، و خصوصا عندما تحدثت عن البيضتين رمز الرجولة و الشهامة. ساعتها، مد يده خلسة داخل سرواله، ليكتشف و الدهشة تعـقـد لسانه، أنه يملك أكثر من بيضتين!! كان للمفاجأة وقع الصاعقة عليه، فتساءل في سره :" ياربي هل تضخم بيضي في غفلة مني بفعل الرشاوي التي تمطر في حديقتي الغناء ؟" . ثم تذكر جنابه ساعتها، و الحسرة حشرجة في حلقه، عزوف زوجته عن النوم بجانبه.