يقول الخبر هذا الصباح أن الوزير الأسبق الجزائري أحمد أويحيى، حوكم بسبع سنوات سجنا نافذا، و كذلك وزير الأشغال العمومية زعلان، و وزير النقل غول عمار. و بجانب هؤلاء، مجموعة ولاة و موظفون ساميون، و أخرون أقل سموا أو أعلى شأنا. و كل هؤلاء السادة اللا أفاضل ضبطوا متمرغين في أزبال رشاوى ونهب عقارات و متاجرة بمصالح الأمة وما لا أعرف من أوحال أخرى.
لماذا أتوقف عند هذا الخبر؟ لأنه يجسد سقوط حلم بعرض السماوات و الأرض. هل كانت الجزائر إلا أرض الكرامة المنتفضة ؟ دلوني على ثوري واحد في الستينان من القرن الماضي، لم يحج لذلك الصرح الشامخ، وقد أضحى وطن الرجال الأحرار؟ فكيف تحول الحلم كابوسا ؟ يقول الشاعر:
عشقت صقيلية وكانت جنة الخلود، حتى إذا شخت صارت جهنم ذات الوقود
أعتذر و أنا أسرد هذا البـيـت الشعـري في معناه لا مبناه، لكن ماذا بقـي سليما مشرقا من أشعارنا ؟
الأمير عبد القادر الجزائري
الجزائر العاصمة وهذا الشيخ الجليل
يومها و منذ عشر سنوات كنت في زيارة للجزائر، و كنت أجري من شارع لشارع، من معلمة لأخرى. متأملا بشوق هذه الملامح التي تطالعك ضاحكة أو عابسة، لكنها ما أن تعلم أنك مغربي، حتى تتحول ترحيبا و إشراقا. لا أعرف كيف قادتني خطاي لذلك المقهى، الذي كان غاصا برواده. لم يكن هناك من مقعد فارغ إلا مائدة في الركن القصي، وقد جلس إليها شيخ جليل الهيأة. كان الكرسي أمامه فارغا، فتقدمت أسأله الإذن، فإذا به يرفع عينيه عن كتابه ليقول: " تفضل"، ثم ما أن جلست حتى رأيت ابتسامة الرجل تـتسع ومعها هذا السـؤال: "من المغرب ؟" أجبت: " نعم إني حقا من المغرب". فقال الرجل: "اخيار الناس" فقلت مازحا : "نعم نحن المغاربة أخيار الناس، وأنتم الجزائريون أشراف الناس، فكيف لا نتحد؟". لم أكن أريد إلا دعابة، لكن الدعابة البريئة فجرت حوارا صاخبا، لا تزال أصداؤه ترن نبضا في أعماقي.
قال
الرجل بانفعال مُلهم : " بالله كيف نتحد ونحن لم نجتهد حتى نفك شفرة
الرسالة التي استوصانا بها خيرا كل من عبد الكريم الخطابي، وعبد القادر الجزائري،
وعمر المختار. أو ليسوا التعبير الأشرف عن نفس الهوية ؟ نفس الشعلة التحررية ؟
بالله أين هؤلاء الرجال ؟ في أي صحراء تركناهم يموتون عطشا، وقد دشنوا لنا الطريق
في المسالك الوعرة نحو حدائق العـزة ؟".
قلت بلا مبالاة متعمدة: " مياه كثيرة مرت تحت القناطر منذ رحيل هؤلاء الرواد و قد تكون رسالتهم أدركها القدم ". فرد الرجل بغضب: " قتل الرواد هو الخيانة بامتياز. هذه المياه التي ذكرت، هل أخصبت زرعا أو روت ضرعا ؟ ماكنا سذجا حتى نقرأ تلك الرسالة قراءة حرفية، و لكنها قراءة رمزية تستحضر حس التضحية، و نبل المقاومة، والوفاء للعهد المُعطى. سيدي إن شعلة الحرية خالدة لا يدركها القِـدم ".
الأمير عمر المختار |
البوليزاريو إسم مسخ تنكر للأسماء الحسنى
قلت ربما ساخرا : " المقاومة لم تتوقف لقد ظهر الإرهاب و الأصولية بل ظهرت حركة تدعى التحرر، إسمها البوليزاريو". أجاب الرجل وكأنما لذغـته أفعى:
" البوليزاريو ليست إلا سمة انهيار الحلم الإمبراطوري المغاربي،
إنها تعبير عن الدولة الوطنية، الدولة الجبل تقزمت، ثم تمخضت لإنجاب هذا المسخ.
جميعنا نعرف أهل الصحراء عمقنا الثقافي التاريخي. إنهم المرابطون والموحدون،
مشيدوا الإمبراطورية المغاربية، التى ذابت في أحضانها كل السدود والحدود. لكن
بالله ما يعنيه هذا المسخ، بهذا الإسم: البوليزاريو، إنه إسم قد يكون
إسبانيا أو أمريكيا أو بيزنطيا، ولكنه كل شيء إلا الإسم العربي، الذي هو علة
هويتنا و وجودنا. هل رأيت في عوالمنا كيانا سياسيا أو تحرريا أصيلا يدين باسم ليس
إلا طنينا أجوفا تنكر للأسماء الحسنى؟"
قلت: " هذا الإسم المسخ، خير تعبير عن ثورتكم و كيف انحرفت عن مسيرتها، وقد كانت قمرا يهدي الحائرين ؟" أجاب الرجل :
" غداة الاستقلال، كان الرئيس أحمد بنبلة رمزا كبيرا لم نكن نذكر إسمه العائلي، بل كنا نقول احميمد، فهو شقيقنا وابننا و رفيقنا و جارنا الأقرب إلى بيتنا. و عندما جاء الانقلاب غضبنا، و لكننا لم نلبث أن وقفنا مشدوهين أمام نزاهة القائد الجديد، الذي لم نكن نعرف له قصرا و لا أهلا و لا أخا. و كان يجب أن يموت حتى تموت الأسطورة، و حتى ندخل عهد الرداءة بامتياز. لم يكن بوضياف إلا ذلك الفارس النبيل، يمتطي جواده و يمضي عابرا كلمح البصر.
كان سقوطه تحت الرصاص، إيذانا بدخول البلاد عهد الجريمة، عهد العسكر والنهب الممنهج. لم يكن هناك من صوت يعلو فوق صوت الدولة العتيدة، إلا الصوت الأصولي بفحيح أفاع غادرت غيرانها لتنشر سمومها و ظلامها. و اليوم هاهي الدولة تنتصر، هاهي تتشدق بالديمقراطية صباح مساء، وتسلم أعنتها لجنرالات زينوا صدورهم بأعلى الأوسمة نصرا مؤزرا حققه الأبطال الشجعان ضد مليون جثة لمليون شهيد."
الهوة الفاغرة أم الهوة الفاجرة
قلت "هنا تكمن الهوة الفاغرة بين الأمس واليوم ؟"، قال : " لك أن تسميها الهوة الفاغرة أو الفاجرة، لكن الفرق بين الأمس واليوم يكمن في أن المسؤولين بالأمس لم يكونوا منتخبين و لكنهم كانوا منا وإلينا، كانوا يتحركون على وقع النبض في صدورنا. المسؤولون اليوم هم عصابة لا نعرف كيف وصلت؟ و إن كنا نعرف جيدا طبيعة السلالم التي تسلقت. إنهم أناس غرباء عنا ونحن غرباء عنهم، إنهم يدينون بالولاء لجيوبهم، وأرصدتهم المهربة تحت جنح الظلام، و في وضح النهار. إنهم نتاج غريب لبهارات قبلية، و جشع عشائري، و إحباطات اجتماعية، وعقد نقص تاريخية، كل هذا الخليط أعطى هذه المخلوقات الكسيحة التي نراها تتمدد فوق أرائكها و أياديها مطبقة على مفاتيح زنازينها".
كيف؟ وكنا حتى الأمس سباعا
سألت: " فبالله كيف عرفنا هذا الانحطاط العظيم، كيف أهملنا دروس الوطنية و الثورة و التضحية ؟ هل من ضعف أم من هشاشة فينا ؟ كيف و قد كنا حتى الأمس القريب سباعا؟ لعل المؤرخ وحده ينيرنا، و ها أنا أبحث عنه بالشمعة والقنديل، وعندما أجده أكتشفه منفيا، و الكلمة، كل الكلمة لهذا المدَّاح المزهو بقفاطينه، الذي يُـنمق و يُـزوق و يُلفـق وعلينا جميعا أن نصفق".
قال الرجل مجيبا : " هل تريد دليلا ؟ ها أنا الدليل، أو لست في الخامسة والثمانين من عمري، أو لم أساهم في الثورة ؟ أو لا أعرفها برجالاتها و نسائها ودواويرها و مدنها و أحراشها وغاباتها ؟ إني أعرفها بقاداتها و شهدائها، أعرفها كيف ولدت، وكيف ترعرعت، و كيف انتصرت، و أعرفها كيف انتحرت. وإذا فلي روايتي، لكنها رواية تنسف ما ينسجون، و النتيجة ها أنا هنا أجلس وحيدا كالمجدوم، لا أحد يقترب مني. الكل لا أعرف يهابني أم يخافني. و إن تفضلتَ بالجلوس معي فلأنك خارج رقعة الشطرنج بيادقا و بنادقا."
قلت " إنه الخوف من التاريخ أو بالأحرى الخوف من هذا الماضي الذي لا نعرف بماذا يفاجئنا غدا. لكن ثورتكم ستظل أشرف ظاهرة في تاريخنا و تاريخ الإنسانية، و متى كانت الخفافيش تعبث بهذا الإرث الإنساني العظيم ؟".
ما قيمة جمر ولا من نافخ ؟
قال الرجل مجيبا : " نعم، نعم، دع هذا المُسَجل في وعي الإنسانية، و اسألني عم يجري في واقعنا البائس ؟ ألا ترى أن ثورتنا لم تكن إلا حريقا لم يخلف إلا رمادا ؟" قلت : " و لكنه الرماد بجمر في الأحشاء". قال: "ما قيمة جمر بلا نافخ ؟ لعلك رأيت جموع المنافقين و الانتهازيين و المتسلقين يخرجون أذنابهم و يتبولون على هذا الجمر الذي هو رصيدنا." قلت : " لكن متى كان بول الأقزام يطفئ جمر البركان ؟".
قال الرجل : "ما أروع ما تقول لكن بالله عليك هل تدرك حجم الخسارات ؟ هل هناك أقبح من الخيانة عروسا تختال بجانب عريس من هشيم؟ سيدى إن جسدي كما روحي طافحان بجراح لا تلتئم. فرجاء مهلا، إن الأسئلة المشتعلة بالفضول المعرفي ليست إلا رماحا تغوص في هذه الجراح الراعفة. كيف لي أن لا أستحضر ثورتنا و قد كانت البلسم غذاء لكل الأرواح الظمأى للحرية. تصور سيدي شعبا، عن بكرته يهب ليسترد حقه من عدو يملك أسلحة البر و البحر. تصور هذا الشعب لا يملك في انطلاقته إلا بنادق صيد عتيقة، فبالله، أية معجزة صنعت هذا النصر العظيم ؟ هذا النَّـفـَس الجبار، ماذا بقي منه اليوم ؟ كيف تحولت الملحمة ذكرى باهتة بين سراب و سحاب ؟
الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي |
نحسد طارق بن زياد
" لقد لوينا عنق التاريخ حتى يستجيب لنا، و ما أن فعل حتى لوينا أعناقـنا نحو إرثنا البائس تجلى سلطة بلا لجام. و ها نحن اليوم نسحب أقدامنا خلف أوطان كنا ملهمين لها. ها نحن ممزقين بين أصولية تذبحنا، و دكتاتورية عسكرية تسحقنا، فبالله أين المفر؟ لكم نحسد طارق بن زياد. فنحن لا بحر خلفنا، و لا عدو أمامنا، و لكنها فقط أشباحا، لم نصف حسابنا معها فهبت من مراقدها. و جاءت معززة بأسلافنا، تضاعف من وحشية فتكها، كما قال الأديب الكبير كاتب ياسين. هل هي لعنة الله؟ أم لعنة التاريخ ؟ أم لعنة شهدائنا ؟ أم ترى كل هذه اللعنات حطت كغربان شؤم فوق أكتافنا ؟".
قلت : " سيدى أقاسمك حسك النقدي، وحكمتك البليغة، ولكني أختلف معك في تشاؤمك، ألا ترى معي أن التأويلات، إن أطلقنا لها العنان فقد تحل محل الوقائع. نعم، انهارت كل الأحلام لأنها بالضبط لم تكن إلا أحلاما. سقطت كل الوعود لأنها بالضبط لم تكن إلا وعودا. وإذا، فلنعد لأرض الواقع لنكتشف أننا في المغرب و في الجزائر نقتسم نفس المأزق التاريخي و إذا نفس الأفـق الديمقراطي."
نعم، قال الرجل بغيض : " مرحى بالتأويلات تصيب كبد الحقيقة، مرحى بالتأويلات منزهة عن الأغراض الأنانية، مرحى بالتأويلات مَعانيا ضاقت بها العبارة، مرحى بالتأويلات هدير قبضات مضرجة تطرق أبواب غد آخر. هل ضربتَ موعدا لي معك ؟ أو لست هنا بمحط الصدفة ؟ لكن متى كانت الصدفة إلا مؤامرة تنسجها أيام وليال تجرعت كؤوس القهر؟ إني أشعر بدماء الشهداء تستأنف تدفقها في عروقنا لتغسل أمخاخنا من دعايات لوثت عقولنا و كبلت أطرافنا."
الله
وحده يعلم كم طال حوارنا، لكن الرجل ذات لحظة قام مودعا. فقد آن أوان الصلاة.
ساعتها، وقفت، مددت له يدا للمصافحة، لكنه جذبني إليه بقوة ليعانقني بحرارة.
و
تساءلت ساعتها، أكنت أعانق
عبد الكريم؟ أم عبد القادر الجزائري ؟ أم عمر المختار؟
أم ترى كنت أعانق كل هؤلاء الرجال
العظام، في شخص هذا الرجل المنبثق من أعماق تاريخ
مجيد. أو ليست هذه الحرارة في أنفاسه إلا غيضا من فيض تاريخ يتوجع؟.
يشهد الله، حتى اليوم، و بعد عشر سنوات، لا أزال أشعر بحرارة أنفاس ذلك الشيخ الجليل في خياشمي ودمي..