لا أعرف كيف حدث ؟ و لكني أعلم يقينا أني في اللحظة التي سمعت فيها بالمحاولة الانقلابية البائسة في الأردن. في تلك اللحظة و بلمح البرق أشرقت في ذاكرتي صورة الملكة رانيا تقتحم يوميا القناة التلفزيونية السي ان ان لتقول كلمتها. و لكم بودي أن أنغمس في أعماق همنا العربي لعلي أفك خيوط العلاقة الخفية بين هذا وذاك.
الملك عبد الله الثاني والملكة رانيا |
صورة هذه المرأة المشرقة بهذه الإنجليزية الراقية بهذا التعبير عن الهم الإنسانى النبيل. أو ليس كل هذا أكثر مما تطيقه الهيأة العشائرية ؟ أو ليس كل هذا مساس بالنموذج القبلي المتفسخ ؟ أو ليست هذه النبرة الفخورة إلا الفتيل في الحريم ونتانة الحريم ؟ أو ليس هنا الانقلاب الحق؟ متى كانت الكلمة أنوثة مشرقة ؟ متى كانت الكلمة إلا سيف رجولة مزهوة بشلاغمها الحديدية المفتولة ! و إذا فكيف بامرأة و لو كانت ملكة أن تعتدي على حرمة المقدس؟ فإذا الرجل الخطيب المُـفـوه يصبح الأبكم المدمدم و إذا المرأة ذات الفم المقفل تصبح الفصاحة بامتياز؟
و لأن المصيبة لا تأتي يتيمة ! فإن هذه المرأة ليست إمرأة و كفى. و لكنها زوجة الملك عبد الله الثاني و إذا فهي الملكة! و إذا فهي "صاحبة الجلالة"! و كل هذا ليس إلا فُـلفـُلا حارا في حنجرة العشيرة. إن كلمة "صاحبة الجلالة" لا مكان لها في قاموس العشيرة. هذا القاموس القدسي. فكيف لا و قد سطره السلف الصالح حرفا حرفا؟ فكيف نضيف حرفا دخيلا ؟ وكيف بكلمة مشاغبة هي كل شيء إلا شرعية ؟ إن كلمة "صاحبة الجلالة" ليست إلا حصان طروادة دخل القاموس في غفلة عن حراس القاموس و هكذا فسح المجال لأعداء المدينة الفاضلة حتى ينقضوا عليها من الداخل فيحيلوها خرابا وغبارا !
الملكة رانيا في لقاء مع المسحوقين من مسلمي الروهينغا المنسيين |
بثينة و الركب المرتحل
لا أشك في أن الملك عبد الله فخور بزوجته هذه وله الحق كل الحق في ذلك. بل أقول يستحق لذلك أن نرفع له قبعة التقدير. و لا أشك أيضا في أن الملكة فخورة بزوجها و إذا كان الأمر كذلك فبالله ماذا يبقى من نعرة القبيلة وحماس القبيلة وأشعار عكاض ؟ أو ليس كل هذا ينهار معلقة فخيمة فحريما ؟ و إذا فمرحى بعزة مستأنفة و همة تحررية تلهم الأولاد والبنات نموذجا لعائلة جديدة أدارت ظهرها لقهر و نقاب و فقر. و هذا يعنى وداعا لتعدد المراعي حسب تعدد القطيع ! وداعا لتعدد الزوجات و الصولات و الأبهات و وداعا لتوشيح عذريات مرقعات بأوسمة من خرق مهترئات و أسمال باليات !
"ودع بثينة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟"
نعم هذا ما يقوله شاعرالبكاء
على الأطلال ! نعم لا طاقة لنا بالوداع ! فهل هذا الانقلاب الممسوخ إلا رفض الوداع
! إنه إرادة القبيلة تلملم أطرافها تنصب خيمتها تشحذ سيوفها و رماحها و تحضر انقلابها
و قد استدعت أبواقها و شعراءها.
ليلة القبض على القبيلة
كل المراجع الإعلامية و منها الواشنطن بوست وهو الخبير العليم بما يجري في رحابنا، أكد أن مدبر الانقلاب الأمير حمزة، ظل ولا يزال منذ إزاحته عن ولا ية العهد يوثق أواصر المحبة و صلة الرحم مع "زعماء القبائل". بل و أضافت الصحيفة المذكورة، أن أصابع الأمير السعودي محمد بن سلمان ظلت و لا تزال تحرك الخيوط من خلف ستار لغرض واحد. و هو اقامة حفل تنصيب القبيلة آمرة ناهـية، حاكمة مـستـبـدة، قاهرة مرتوية حد الـقـيأ من وأد بناتـها.
و تقول نيويورك تايمز بأن إسرائيل بدورها حاضرة، و أن طائرة تابعة لخطوطها كانت رابضة على أرض المطار، لتهريب عائلة الأمير المتمرد خلال تنفيذ العملية. و قد نتساءل لماذا إسرائيل ؟ أو ليس الرهان يكمن في هذه الحداثة التي تشق طريقها في الأردن و التي تجسدها الملكة رانيا ؟ أو ليست القبيلة هي الرفيق المخلص في وجه هذه الحداثة الحبلى بغد ديمقراطي ؟ أكيد أن الأردن ليس بالواحة الديمقراطية المحلوم بها، ولكن من ينكر أن هذه تطرق أبوابه بعنفوان إنهاء اليأس الاجتماعي و عنفوان إنهاء اللا مساواة و عنفوان نسف البطالة و التردي و أكثر من هذا، بعنفوان هذا الشغف الخلاق، الذي يخترق عالمنا العربي، شغف الخروج من تسلط الحكم المطلق و تشييد صرح الكرامة.
و إذا فإن إسرائيل تجد في إبن سلمان الخل الوفي. و هذا الخل الوفي يجد في إسرائيل من يشد أزره و يسدد خطاه ضد هذا الملك الذي أبى إلا رفض التطبيع و رفض صفقة القرن و رفض الدخول لمستنقع اليمن و أكثر من هذا أبى إلا أن يكون نصيرا للأشقاء الفلسطينيين. و أكثر من هذا ألا يجد بن سلمان في إسرائيل الحليف ينفخ في عضده نفسا ثوراتيا مقدسا ضد الزناة العصاة أي غلاة الفجرة ممن يدينون بالولاء لهذه الديمقراطية الكافرة التي ترفع أعلام الأمة البغيضة ضدا على الأم الحق. الأم المبجلة أي الأم القبيلة دام لها المجد و السؤدد !
كيف نخوض في كل هذا و لا تعصف بنا حرقة السؤال : أما كان بإمكان الأمير محمد بن سلمان أن يلعب دورا آخرا ؟ ألم يستفد من دروس التاريخ ؟ ألم يكتشف أن المتسلطين المستبدين لا يُعمرون طويلا ؟ و إن عمَّروا و ماتوا على أسِـرَّتهم، فإنهم يموتون يوم موتهم؟ بالله، كيف يحلو نومك أمام كل هذا الخراب العظيم و هذه الكوليرا و هذه المجاعة تحصد أرواح الأطفال والنساء والشيوخ، فضلا عن هؤلاء الرجال الذين ينتشلون من اليأس أظافرا وأنيابا للدفاع عن حياضهم في هذا اليمن اللاسعيد؟ أما كان بإمكان سموالأمير أن يكون رسول خير و نـبع كرم، فينشر أياديه البيضاء حقولا تطعم الجائعين و أنهارا تروي الظامئين؟ يا الله، هل قدر هذه الأمة أن يمطرها الله ذهبا، لا يلبث أن يتحول سما في الحلوق و حشرجة جوع في الأحشاء؟
لا أعرف إذا كانت ستكتب الحياة لسُـموه أربعين سنة أخرى، و لكني أعلم يقينا أنه بعد هذا العمر الطويل و قد تـقـوس ظهره وغارت ابتسامته و رسم الزمان خطوط الفشل و الخيبة على جبينه يومها سيلتـقـيه أحد أولادنا فـيسأله بحرقة في الفؤاد : كيف؟ و لماذا؟ ألم يكن بوسعك أن تكون سيد العربان والعُـجمان؟ فكيف اخترت أن تكون إلا عبدا لأنانيتك و ها أنت اليوم بلا مجد و لا هيبة و"لاخيل لك تُـهـديـها" فهل "يسعدك النطق إن لم يسعدك الحال"؟ نعم أجاب الأمير: نعم، كنت أكبر غني في العالم لكن قناطير الذهب خنقت أنفاسي! نعم كنت أكبر غني في العالم. لكن الذهب أفلسني و جعل مني أكبر فقير في الدنيا و الآخرة !!!