وداعا أحمد بن بلة آخر العادلين ...
كأني بهذا
الراحل العظيم اختار لحظة رحيله . فما أن دقت خمسينية الإستقلال حتى أطلق صرخته :
" أيها الملاح العجوز آن أوان الرحيل فانشر قلاعك.."
نصف قرن من
الأهوال ،عاشها أبو الهول هذا الذي ما أن نفض غبار حرب التحرير، حتى دخل أهول الحروب ، وأروع
الحروب، حروب الأحلام الكبرى، حروب الخيبات الكبرى، حروب الخناجر ظهرا وصدرا من
أقرب الرفاق .. لكن ما الحيلة والرهان هائل ؟ رهان تشييد وطن لم يكن يوما وطنا، ولكنه بهمة الأشراف
من رجاله ونسائه ، كان عليه أن يلوى عنق التاريخ ، وخطوات التاريخ، حتى يفرض عليه
خريطة جغرافية أخرى، بشغف آخر، لأمة أبت إلا أن تحفر ملحمة وجودها أنشودة على جبين
الزمن .
في شخصية هذا
الراحل الكبير، تقاطعت يوما أحلام الأمة الجزائرية والمغاربية والعربية ، تلك
الأمة الضائعة ساعتها في ليل هوانها وليس من نبي .. تلك الأمة الحائرة يومها وليس
من دليل .. لم يكن هناك إلا المستعمر يؤازره الإقطاع بهياكله الضرائحية الخانقة، فكيف وجد أحمد نفسه ويا لسخرية القدر في نفس
الخندق يقاتل مع نفس المستعمر؟ بل وأكثر من هذا يحصد أروع الأوسمة بطولة ؟ ألم يكن
هذا أشرف تحية من أشرف أمة تقاتل مع خصمها ضد الخصم الأكبر والنازي الأحقر ؟ ما أخصب
الدرس إذا . فما أن وضعت الحرب أوزارها، وما أن اكتشف أحمد أن من حارب معه ليس إلا
جلادا آخر لا يقل قذارة حتى عاد للبندقية ، يحارب هذه المرة من أجل حق أمته أن تكون ...
أو ليس حقا أروع الزعماء .. هم أولئك الذين يقرءون
آثار خطواتهم .. وينحتون من أخطاء هده الخطوات .. سبيلا آخر لا مجال فيه للمساومة
مع قوى الانحطاط ..
تاريخنا المزروع بالألغام المخزنية
في الذاكرة المغربية الملغومة بالسموم المخزنية يعتبر بن
بلة عدو المغرب الأكبر، أو ليس بطل تلك الحرب المخجلة حرب الرمال ؟.. أو لم يقل
أحد المهرجين أخيرا، أن المهدي بن بركة ساند بن بلة خلال تلك الحرب وأنه إذا يستحق
لقب" الخائن" .. نعم إنها الزواحف المخزنية تلوت صفحات التاريخ ، بمخاط
لعابها المصفر تمسحا بما يسمونه " الأعتاب الشريفة " .. لكن الحقيقة
أسمى من هذه الترهات .. الحقيقة من نور.. والنور لا يتلوث .. وإذا كانت الكهوف
المخزنية نتنة ومظلمة .. فلأنها أحط من أن تأسر النور بين أسوار طلاسم بخورها ..
الحقيقة تقول أن
الحسن الثانى كان يومها حديث عهد بالسلطة
، وكان في أوج شبابه وأوهامه، وكان يطمح للعب دور رائد في التحالف الإستعماري
الإمبريالي الذي لم يتلق فقط أقبح طعنة من
الشعب الجزائري بحربه التحريرية ، بل أخطر من هذا فإن قيادة هذا الشعب أبت إلا أن
تجعل من الجزائر قبلة الثوار، يحج إليها كل ممتلي حركات التحرر عبر العالم .. من
هنا كانت الحرب القذرة التي استهدفت سحق الثورة الناشئة، وطموحاتها العالمتالتية ،
ومن هنا ذلك الموقف الشريف للشهيد المهدي الذي بحصافته الأسطورية أدرك البعد
الخسيس لتلك الحرب والرهانات التآمرية المتلاطمة خلفها ..
الهدية أم الرشوة السلطانية ؟
إننا هنا أمام
تاريخ حتى اليوم لم يكتب بعد ، وإذا فإنه حقل طافح بالألغام المخزنية ، تلك التي
يزرعها يمينا وشمالا مؤرخوا السلطان عندنا ، أو مؤرخوا الحزب التوتالتاري الواحد
عندهم ، وقد قرأت لأحدهم وإسمه عبد الهادى بوطالب ، أن الحسن الثانى قبل حرب
الرمال جد واجتهد حتى يقيم علاقات جيدة مع النظام الجزائري بقيادة بن بلة ، وأنه
كتعبير عن حسن النية توجه للجزائر مصحوبا برتل طويل من سيارات الميرسيديس هدية
لأحمد بن بلة ووزراء حكومته ، لكن هذه الهدية يؤكد مؤرخ السلطان لم تحض بالتقدير
المفروض من بن بلة. وكان ذلك صادما لشعور الملك ..
نفهم من هذا الكلام أن السلطان ومؤرخ حظرته ، اعتبرا أن
الهدية السلطانية لم تحض بما تستحقه من احترام ، لأنها قدمت لأناس هم مجرد أوباش
ورعاع ، فكيف ينتظر منهم أن يشكروا فبالأحرى يردوا التحية الملكية بأجمل منها ؟
إن سوء التفاهم هائل بين منظومتي قيم : القيم المخزنية
الزبونية ، والقيم النضالية التحررية ، ففى الوقت الذي كان فيه الحسن الثانى يقدم
هدية فاخرة للرئيس الجزائري خدمة لمآرب نستشفها ، كان الرئيس الجزائري يري في تلك
الهدية رشوة مهينة لشخصه ، ومفتاح فساد وإفساد لضمير الثورة ..
ماذا يبقى من بن
بلة ؟ وماذا بقي من الحسن الثاني ؟ كلاهما سيبقى الرمز بامتياز .. الحسن الثانى
رمزا لدولة تازمامرت .. وبن بلة رمز المناضل الذي عاش متأبطا أحلام أمته ..
بالتأكيد لم يوفق في كل مشاريعه ، ولكنه ظل طوال عمره عفيفا نزيها ، أو ليس هذا
الإنجاز الأعظم ؟ هل هناك أنبل من رجل شيد شخصيته منارة أخلاق في بحر الفساد
والإفساد ؟ ..
طوال عمره
ظل أحمد يقارع المستحيل ساخرا بالممكن الرديء .. طوال عمره ظل يحاول ويحاول .. حتى
آخر نفس في أحشائه .. أو ليس هنا الدرس الباهر ؟ أو ليس هنا يكمن الجوهر الإنساني
النبيل؟ أو ليس هنا تكمن حقيقة الإنسان الخالدة ...؟
الدكتور أحمد بن بنور