تحت عنوان " رسالة إلى المعارض المخضرم محمد الرباع البرشيدي" كتب السيد حبيب عنون مقالة فى "هيسبيريس" يرد فيها على الأستاذ محمد الرباع الذى صرح عبر مختلف وسائل الإعلام عن إنتقاده للإنتخابات المغربية ملخصا رأيه كالتالى : " إنها إنتخابات تجرى بين الملك والملك " ! وبالطبع فإن التعبير عن الرأي حق مقدس. بالظبط كما الحق فى تفنيد رأي ما , وإذا فالسيد عنون له كامل الحق فى نقده ذاك. لكن هذا النقد هنا أخذ طابعا يستحق أن نتوقف عنده ,لأنه يحيل على إرت لا يزال يحكم قبضته على حقنا فى أن نكون كما نشاء لأنفسنا أن نكون
يقول السيد عنون :" من العيب ياسيد الرباع البرشيدي أن تصف مجريات الإنتخابات المغربية باللعبة وهذا نعت يزيد من معرفة مدى انحطاط مستواك التقافى" وقد يكون سبب هذا "عدم فهمك لتاريخ بلادك الذى لمدة 12 قرنا عاش فى ظل الدولة العلوية الشريفة."
ويضيف حضرته غير آبه البتة بخلط الأزمنة التاريخية أو الركاكة التعبيرية :" لعلمكم ياسيد الرباع البرشيدي أن هم ملك البلاد هو رقي المواطن منذ أن كان أميرا وليا للعهد " تم لا يلبت الكاتب أن يلحق خصمه بكل الآخرين الذين لا يرى السيد عنون فى موقفهم إلا تعبيرا عن " ما ينبح به أعداء الوطن"!
هل يعنى هذا أن المخزن والوطن شيء واحد!؟ وأن كل هؤلاء المختلفون مع المخزن مجرد كلاب! ؟ مادام تعبيرهم ليس إلا نباحا !؟ ألم ينعت القذافى أبناء شعبه بالجرذان؟ ألم يكن يسمى معارضيه " الكلاب الضالة "؟ أو لسنا هنا فى عز الثقافة السلطوية المنفوخة بحمولتها الاستعلائية ؟
كل هذا لا يستحق أدنى اهتمام ولكننا نخطئ كثيرا عندما نهمل دلالات الخطاب التقليدي ومدى تأثيره اللاواعي فى خلايا تفكيرنا ومن تم ممارساتنا وإذا فلنتوقف ولو فقط عند عنوان المقالة مستوحيين روح النص وخلفياته .
لعل القارئ سيستغرب من كلمة "البرشيدى" التي يستعملها الكاتب فالمعروف أن الأستاذ الرباع يوقع باسمه " محمد الرباع " فماذا تعنى هذه الكلمة فى هذا السياق خصوصا وأنها تتردد كلازمة مرفقة باسم صاحبها ؟ البرشيدي تحيل طبعا على مدينة برشيد وطرحها هنا ليس بريئا البتة ولكن الكاتب يريد القول أن الرباع هو "العروبي" المنتمى لتلك الجهة النائية التى أبعد ما تكون عن المدن المغربية الأصيلة والتي هي إما "حضرية" أو"مخزنية" . إننا هنا فى شبه قرية تقع فى الهامش المنبوذ أى تلك "الجهة" التى إما أمازيغية أو اعروبية والتى تميزت بسيبتها وخروجها الدائم عن السلطة الشرعية
كلمة "مخضرم"؟ هذه الكلمة فى الثقافة التقليدية تحيل على أولئك الشعراء الذين عاشوا فى ما سمي بالعصر الجاهلي وأدركهم الإسلام وإذا فأشعارهم لم تتخلص بعد من آثار البيئة المسماة جاهلية والتى لا تعتبر عمقا ثقافيا وحضاريا أمد المشروع الإسلامي بآفاق مخيال خصب ولكنها مجرد أمواج ظلام. وإذا فيجب التعامل مع هؤلاء بحذر وتوجس لأنهم يهددون صفاء الحاضرة المطهرة
وماذا عن كلمة "معارض" ؟ إنها فى هذا السياق لا تعنى الموقف السياسي المناهض للموقف الرسمي كما تريده لغتنا المتداولة كلا إن هذه الكلمة وفى هذا السياق وجنبا لجنب مع " المخضرم" تصبح "الخارج" أي عن الإجماع وإذا فالأمر يتعلق بالخارجي نسبة للخوارج خصوصا وأن المعني بالأمر يعيش "خارج" الوطن
هذه الكلمات اللابريئة جنبا لجنب مع كلمة "الرباع" تجعل هذه ليست إسما يدل على مسمى ولكنها صفة تحيل على مهنة متدنية كما ذلك فى بيئتنا المغربية فالرباع هو ذلك الشخص
الذى يقوم بعمل متواضع ليس أرفع شأنا من "الخماس" .
لنتوقف هنا قولا بأننا فى الآليات الفكرية التراتبية التى تشتغل بها الثقافة التقليدية والتى تجعلنا نترجم : "معارض مخضرم برشيدي" كالتالي : "خارجي جاهلي اعروبي ! " وإذا كان الرجل محمل بكل هذه الأوصاف القدحية هو مجرد "رباع" فكيف نستمع له أو نعطيه الحق فى كلمة ؟
إنها الثقافة العتيقة التي تعتبر المخزن الاستبدادي ضمانة لاستمرارية وجودها فهو الحافظ لرأسمالها الرمزي المعرفي المهدد بحداثة يجسدها نساء أبيات ورجال أشراف من صنف الأستاذ الرباع أي أولئك المنبتقون من كل الأصقاع والمقتحمون هذه القلاع حيت يحنط الفكر وتعتقل الإرادات
في هذا الخطاب نكتشف هذه الطاقة التسفيهية التي تشكل الدعامة الرئيسية لثقافة الاحتقارالتقزيمي ضد كل تعبير خارج فضائها المقدس. نلمس غيضا مكتوما ضد هذه الإرادات التى تشق طريقها خارج الرقابة الخانقة للجهاز المعرفي التنميطي . إن الأستاذ الرباع غادر المغرب متمردا على القمع ولكنه لم يستكن بل واصل دراسته ونضاله ليصبح أستاذا جامعيا تم نائبا برلمانيا فى هولندا تم صوتا مسموعا منددا بالعنصرية أي كل هذا الذي يعطيه شرعية الحق في مؤازرة الحق . لكن الثقافة التقليدية لا تطيق هذا لأنها وحدها مالكة الحق والحقيقة لذلك تستدعى كل أدواتها التحقيرية لسحق خصمها اللذوذ الذى كما شيد شخصيته المستقلة فإنه يذكر بحق أمته فى تشييد شخصيتها الحرة المستقلة. مرةأخرى وبالكثير من الأسى أطرح هذا السؤال الموجع :" لماذا هذه الشتائم وكل هذا الإحتقار لشخص ذنبه الوحيد , التعبير عن رأى مخالف بالأسلوب الحضاري ذاته الذي تقره المبادئ الديمقراطية ؟" للأسف الشديد يجب الإعتراف بأن التربية التى نتلقى فى البيت والمدرسة والمخزون الذى نرت والجو العام الذى نعيش فى أحضانه. كل هذا يؤهلنا لكي نكون طغاة صغارا أي جنودا مجندين فى خدمة الطغيان الأكبر
لذلك فإنى عندما أقرأ فى هذا الموقع وفى صحافتنا الوطنية دراسات ومقالات لامعة بحسها الحداثي والتحرري والنقدي والتسامحى أكاد أصرخ أمام أصحابها :" طوبى لكم أيها السادة الأشراف لقد حققتم ثورتكم الثقافية فجعلتم من أقلامكم فوانيس فى كل هذه العتمة
الدكتور أحمد بن بنور