نشرت صحيفة لومند، إستجوابا نيِّـرا مع الأستاذ نورالدين أفاية، عن
هموم الفلسفة ببلادنا. وهو نفسه الاستجواب المترجَم، والمنشور في موقع
"لكم"، في نفس العدد، مع مقالة للأستاذ أحمد عصيد، حول أسماء مشايخ الوهابية
بشوارعنا، في مدننا. وقد نتساءل ما الذي يجمع هذا بذاك؟ وهل من تنسيق بين الموقع،
والمترجِم، والأستاذين؟ أم هل الأمر محط صدفة ؟ أم أن هناك تواطؤا ضمنيا، ومؤامرة
عفوية ضد الرداءة.
ألا يعني كل هذا، أن الهم الديمقراطي، أصبح يملي المواقف وردود
الأفعال، لدى النخبة المثقفة في بلادنا؟ .. قبل التوقف عند هذا النسيج بإبرته وخيوطه
الخفية. لنعرض أولا ما يقوله الأستاذان.
يقول الأستاذ نور الدين أفاية، تحت العنوان البالغ الدلالة : "في
المغرب أساتذة الفلسفة، مراكز مواجهة في وجه البلادة ". إن "التهجم على
الفلسفة يعود لمخاوف الدوائر المحافظة وتصديها لأي فكر حداثي يعلم الحرية والشك
والإدلاء بالحجج المناقضة". ويضع الأستاذ أصبعه على الجرح، عندما يذكرنا بهذه
الحقيقة المُرة : محاربة السلطة طيلة سنوات الرصاص للفلسفة والعلوم الاجتماعية
والإنسانية، تشجيعا للأسلمة، والاتجاهات المحافظة. وكيف لا والنظام السياسي
المغربي، لم يراهن على التعليم كرافعة تنمية
وتقدم، بل اعتبره سدا في وجه المطامح الحداثية للمجتمع.
لكن الفلسفة، يقول الأستاذ، ما فتئت تقاوم، بفضل أساتذتها في وجه الإسلام السياسي. ويختتم متفائلا بظهورالإعلام
الرقمي، ومعه فضاءات التعبير، مما يعطي للفلسفة مُتـنفـسا خارج الرقابة الخانقة.
مداخلة الأستاذ أحمد عصيد، تعود
لرد فعل ضد رئيس المجلس البلدي لمدينة تمارة، الذي يحلو له تسمية الشوارع
والأزقة بأسماء سلفية وهابية. من هنا
انتفاضة المثقف الحداثي، الذي يذكرنا بأنه ليس ضد السلفية التنويرية، تلك التي
ألهمت الحركة الوطنية، ولكنه ضد السلفية الوهابية المستوردة. ويستشف القارئ هذا السؤال
: أو لا يعني فَـرْضها معالما في مدننا، خطوة تيوقراطية تنذر بالإفلاس الحضاري؟.
وحتى يضع النقاط على الأحرف، فإن الأستاذ أحمد عصيد يشرح : "إن
النقاش الذي نخوضه حول أسماء الأماكن، وعلامات التشوير، ليس نقاشا هامشيا أو تقنيا
بل هو نقاش في جوهره يتعلق بمعنى الوطنية، ومعنى القذوة، والتي نحتفي بها من خلال
تخليدها في واجهات الفضاء العمومي".
كورونا الفكر الظلامي
قد يقول قائل : ما شأننا بهذا الموضوع، وبلادنا تعيش الجائحة المعلومة
؟ لكن الخيط الخفي في الخطابين المذكورين يقول ضمنيا : الكورونا راحلة لا محالة،
لكنها قبل أن ترحل قد تتركـنا أعجاز رُؤى خاوية، أو لسنا ساعتها إلا فريسة بين
أنياب التيوقراطية السلفية؟ إن الكورونا فتحت أعيننا بكامل اتساعها على عوامل
الهشاشة والضعف فينا. أو ليست هنا الأرضية الخصبة لفيروس أهول وأخطر، فيروس
الصحراء المقدسة، التى تريد أن تطوينا في سرابها القاحل.
أو لسنا ساعتها مهددون بالفكر الظلامي الوهابي؟ أو ليس المهووس بالجنس،
وإذا فخاطره لا يطيب إلا وقد بَـرقع وحجَّـب ونقَّـب نساء العالمين ، حتى يكُـن جواري
من خير ما ملكت يمينُه ، في ليالي مجونه وعربدته !
إنه الفكر الظلامي الذي يريد أن ينشر أسماء أعلامه، سحابة فقروبؤس على
مدننا. إنه يقول لنا إفعلوا ما آمركم به، وإياكم أن تفعلوا ما أفعل، فأنا أملك
الشرعية المطلقة، شرعية الحرمين الشريفين، وإذا، فإني المخول لي ببركة من الحَجَـر
الأسود. أما أنتم، فلستم إلا عامَّة الرُّعاع، فاركعوا أمامي سُجدا، حتى تنالكم
بعض شفاعتى، واركعوا نساءا ورجالا، ولكنى أعترف لكم، ما أحلى ركوع بنت التاسعة
أمام المُسترسل من لحيتي وحُويصلتي وصُـرَّتي.
تهميش الفلسفة وقتل العقل
فكيف نقي أمتنا هذا الوباء؟ هنا يتدخل الأستاذ نورالدين أفاية مذكرا
بأن غياب
الفلسفة وتهميشها هو قتل لعقولنا، وسد لمنافذ التحررأمام طموحاتنا. الأستاذ
عصيد من جانبه يلتقي مع نفس المنظور، مذكرا بأن هذه الأسماء الوهابية في شوارعنا،
هي العدو الألذ للفلسفة، وأنها أدلجة سياسية متخلفة، في خدمة مخيال عشائري قبلي
مناهض لروحنا التحررية.
والواقع أن خطورة هذه الأسماء،
تكمن في أنها تصبح أعلاما نستبطنها في ذواتنا، نحن وأطفالنا. إنها تصبح عناوينا في
رسائلنا، في بطاقاتنا الوطنية، أي في هوياتنا، إننا ندلي بها في الإدارة. وفي نهاية
المطاف تصبح معالما في حياتنا وواقعنا، إنها تنساب لأرواحنا وعقولنا، كما ينساب
السم في طعامنا وشرابنا... ساعتها نكون قد
تأطرنا، فـتَبنَّـينا تعاليمها ومقولاتها، وبخورها وطلاسمها.ماذا يتبقى
ساعتها من الحداثة المنشودة؟ ماذا يتبقى من الشخصية الوطنية ؟ أو ليست ديمقراطيتنا
المحلوم بها إلا مِـزَقا في مهب الرياح؟
من ينكر أنه في غياب الفلسفة، وفي ظل الأسماء السلفية الوهابية، فإن
العمران الذي هو أساس الحضارة، كما قال المؤرخ الرئيس إبن خلدون، يصبح العمران
المؤدلج، ساعتها نكون قد دفنا المدينة الفاضلة التي نحلم بالإرتقاء لها، ساعتها
مرحى بالتخبط في وحل المدينة التيوقراطية، المدينة الحريمية، ببوليس الآداب، وبوليس
الجلد مائة جلدة. أما من تعدى حدود الله، كما رسمها فقهاء الظلام، فإن السيف
البتاروحده يغسل دما وقطعا رأس العار.
يا أهل الحل والعقد، كأني بكم لا تحلون ولا تعقدون، وإن لم تكونوا
كذلك، فرجاء أيها السادة أعيدوا هؤلاء المشايخ إلى مضاجعهم، وأعني لأوراقهم
الصفراء، دعوهم في آخرتهم يرتعون ويمرحون مع الحوريات الحسان، لا تُـنغصوا رعشتهم
الكبرى أم الصغرى. دعوهم لأنهار عسلهم وولدانهم المخلدون، ودعوا أزقـتـنا وشوارعنا
فهي ملكية لنا، دعونا نسميها بأسماء أبطالنا فكرا، وأبطالنا وطنية، وأبطالنا شعرا
وفنا، وأبطالنا تضحية وعزة.
الأسماء الحرام
تصوروا لحظة واحدة شارع إبراهام السرفاتى أو سعيدة المنبهي أوثريا
الشاوي أو عمر بنجلون أوالحسين المانوزي أو عبد الكبير الخطيبى أو فاطمة المرنيسي.
تصوروا لحظة هذه الرموز تضيء سماواتنا، فإذا بها شهبا تُـرجَـم بها شياطين التقهقر
الحضاري؟ لكنها الأسماء الحرام، ولأنها كذلك فأولي الأمر وهم الساهرون على رفاهية
الثلث الناجي، يستدعون شيوخ الأوراد وفقهاء الاستنجاء و وهابـيـوا الحيض في صحراء
الغيض. إنهم يؤكدون الحق المقدس في نكاح واستنكاح ما طاب من النساء الأبكار،
اللاتى تعلمن يقينا أن رغبة السيد المطاع واجب لا يُـرد، والمرأة الفالحة الصالحة،
هي نفسها التي تلبي الأمر المطاع ثوا، ولو كانت على ظهرحمارأو بعير، كما يقول
السادة المشايخ أعزهم الله.
هؤلاء هم الذين يريدون فرض أسمائهم على شوارعنا، إنهم هم أنفسهم الذين
يأمروننا بالبر و التقوى، وطاعة الحاكم حتى ولو كانت حرابه في ظهورنا، وهذا يعني
أنه علينا أن نكون حُـمـرا ببردعة، ومنغاز يفترس أكتافـنا !
وحتى أغيض أهل الظلام، وأجعلهم يفترسون أظافرهم، أقول لهم، نعم لقد ذكَّـرتُ
بالأسماء الحرام، لكن لِم هذه الأسماء وكفى؟ ولم لا أسماء تقترن في أذهاننا بالفن
الجميل؟ لم لا يكون لدينا شارع أم كلثوم، وفريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، و صباح، ويوسف
شاهين. هل كثير علينا أن تُـرصَّع سماواتنا بهذه النجوم التي نفخت في أرواحنا، عاطفة
الحب، وعاطفة الطرب، وعاطفة الخروج من خيامنا البائسة. فرقصنا "رقصة طفلين
معا وعدونا فسبقنا ظلنا"، هكذا غـنت كوكب الشرق فأغـنت وأخصبت.
لماذا لا تكون أيضا هناك أسماء الممثلين الكبار مغاربة ومشارقة الذين
ساهموا في صنع مخيالنا السينمائي والمسرحي؟
وماذا عن التماثيل؟
يقول أحد المشعوذين من فقهاء الظلام: "النحت في الحجارة هو خراب
العمارة وشتم للإمارة " .. وهكذا أسقطنا هذا الفن النبيل من تراثنا وعمراننا.
أو لسنا في عز البلادة التي ندد بها الأستاذان المذكوران؟
وإذا فمتى تكون لنا تماثيل لأبطالنا في ساحاتنا العامة؟ فهذا للمهدي
بن بركة، وذاك لعلال الفاسي، وهذا لمحمد الخامس، وذاك للمختار السوسى، وهذا لمحمد
بن العربي العلوي، وذاك لعبد الكريم الخطابي، وهذا لموحا أوحمو الزياني، وذاك للمهدى
المنجرة ؟ أو ليس هؤلاء الرجال هم الذين أمدوننا بهذه الكبرياء التى تجعلنا نشمئز
من ثقافة المشايخ، وثـقافـة الـقـبور والـنذور؟ أو ليست ثقافة الكبرياء هذه هي
التى تلهم اليوم الأستاذ نور الدين أفاية والأستاذ أحمد عصيد؟ أو ليست الخيط الخفي
الذي يربط بينهما، فيغرفان من نفس المعين الفلسفي المحرر؟
هذا المعين هو الذي يجندنا اليوم، لنرفض المدينة الخيمة، المدينة
الضريحية، المدينة القبيلة، المدينة الوهابية. المدينة حيث النساء يتنقلن بالكاد،
وإن فعلن فمُغـنبرات مُـلولبات، كخيام سوداء. سواد ليل حدادنا. ماذا يتبقى من
المدينة في غياب النساء؟ أو ليست إلا حديقة ملاط مسلح بلا ورود ولا عـبيـر؟
نعم نريد لشوارعنا وفضاءاتنا أن تستنير بأسماء وتماثـيل هؤلاء الرجال والنساء،
الذين هم أحيانا رجال سياسة، وأحيانا رجال أدب، وأحيانا فقهاء، ولكنهم فقهاء نور.
فالدين بالنسبة لهؤلاء هو قبل كل شيء علاقة روحية مع الله، تلهمنا اجتهادا، تلهمنا
عدالة، تلهمنا تجردا واستقلالية، تلهمنا العمل لبناء أمة عزيزة مُهابة. نعم، إنهم
فقهاء من نور، لأنهم لا يدينون بالولاء إلا للعهد المقدس بين الإنسان والله
والعدالة.
نريد مدينة بوثـقة، تنصهر فيها الإرادات الديمقراطية، وتـتصارع فيها
الأفكار والطروحات. وهذا بحضور الفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس،
والأنتروبولوجيا، وعلم التاريخ. فبالله عندما تُـنْفى هذه العلوم، كيف نحقق مجتمعا
ذكيا، مجتمع فيه الرجل والمرأة يسيران يدا في يد، مشيدين صرح عزتهما التي هي عزة
الوطن؟.
يا الله ... متى كنا حُـمُرا مُستنفرة حتى تُـبردعنا صحراء البَغَـلة
الجهَـلة؟