Rechercher

samedi 20 juin 2020

الدكتور منصف السلاوي أو الحنين لوطن ضائع

نعم، إنها حكاية مغربي تمت التضحية به، مثل الآلاف من أبناء جلدته. نعم، هؤلاء الذين تمت التضحية بهم لا ذبحا ولكن سلخا ومنفى، فكيف وهم المتألقون تخصصا وعـلما و إشراقا. لكن متى كان التألق المشرق إلا انطفاء، عندما تتكاتف غيوم الرداءة لخنق الأنفاس وسحق التطلعات ؟ نعم، نحن الذين اخترنا المنفى نعلم يقينا ما تعنيه الرداءة في بلادنا، ما تعنيه مناحي العيش في الأجواء المسمومة عملا و دراسة و محسوبية و ارتشاء و سمسرة و شحا جشعا مقيتا. وهلم ياجوجا و ماجوجا.

عندما يسود كل هذا، يصبح الوطن الحق، هو ذاك الذي تحلم به وتشد إليه الرحال. هناك، تكتشف والدهشة تملأ أعطافك، انه الوطن الذي يحترم مؤهلاتك ويضمن لك حقوقك بل وأكثر من هذا، يعطيك الحق في الارتقاء والتألق، لا غراما بك، ولكن لأن تألقك تألقه وإشعاعه. ساعتها، وإن كنت المشدود لوطنك الأصلي، ساعتها، ورغم حنين الطفولة عطرا غضا في خياشمك ساعتها، ورغم كل ذلك فإن الوطن الأصلي لم يعد إلا جرحا فـي ذاكـرتك.

 

لعلني أذكر أنه في رواية "أضراس المهندس"، للكاتب المبدع فؤاد العروي، فإن البطل وقد عاش مرارة القهر في مغربه العزيز يقرر يائسا تجربة الهجرة. يأخذ جوازه، يجمع حقائبه. ثم، قبيل الرحيل وبسعار الغيض يضرم النار في أوراقه وكل مذكراته ! فكيف ذلك ؟ ولماذا ؟ الجواب نجده عند الشبيبة المغربية لسنوات الثمانينات والتسعينات، التي أبدعت هذه الكلمة "لحريكً" أي أن تحرق كل شيء، كل الذكريات، كل الأحلام، كل الخزامى حنينا في صدر الأم. ثم، تـُـيمم وجهك شطر الوطن الآخر. أو ليست مرارة المنفى عسلا ..... أمام هذا الحنضل....

 

العالم المهاجر الدكتور منصف السلاوي             

الأستاذة غالية قادرى، كتبت في صحيفة لومند، مقالة مشرقة بعد لقاء مع الدكتور منصف اسلاوي، الذي عين أخيرا مستشارا خاصا للرئيس ترمب في مجال وباء الكورونا والمكلف من طرفه بالإشراف على اللقاح في المختبرات الطبية في هذا الميدان. الأستاذة غالية في مقالتها هذه، تتحدث بإعجاب، ليس إلا تحية المرأة المغربية لابن الوطن، هاجر الوطن، ليرفع عاليا رأس الوطن. نعم، إنه كذلك يرفع عاليا رأس الوطن، لكن ماذا لو كان دائما بأرض الوطن؟ ماذا لو كان مستشارا لرئيس الدولة في بلادنا ؟ ماذا لو كان يدير المختبرات التحليلية في بلادنا و يتخرج على يديه المئات والآلاف ممن هم اليوم جنود مجندون في خدمة الصحة، صحة الوطن وعافية الوطن ؟

 

لو كان الأمر كذلك، لكان الدكتور منصف لا يرفع رأس الوطن وكفى . كلا، كان ساعتها يرفع الوطن بأكمله، طِـبًّا وطيبوبة وتنمية، كان يرفعه أملا مشرقا لكل الطامحين والطامحات للارتقاء بأنفسهم ومعهم هذا الوطن، وقد أصبح ساحة تفان ومنافسة وإخلاص. لكن، يا الله كيف هذا ؟ "وهذا الليل مُـدْركي"، ليل الرداءة لـيل سحـق الإرادات النـبـيلة في الـسواعد الـشريـفة.

 

آلاف أو بالأحرى عشرات الآلاف من المغاربة، مهندسين وأطباء وصيادلة وحيسوبيين.... كلفوا الدولة رموش العين، من القسم التحضيري حتى التخرج. أي قرابة العشرين عاما من الإنفاق الدؤوب والتربية والرعاية، وعندما جاءت لحظة رد الدين، كانت الدولة عاجزة عن الوفاء بوعود الدين، فألقت بالمستـدين خارج الحدود، حتى يكون في خدمة الخصم الحضاري. فهذا وحده دامت له العزة، وحده له الحق في امتلاك أسلحة الدمار الشامل. وحده له النصر المبين. أما نحن، فلنا الهزيمة وثـُمالة الهزيمة. فلنشرب ماطاب لنا، حامدين شاكرين !!

 

هذا العالِم المهووس بحب بلاده، والذي كان مناضلا بالاتحاد الوطني لطلبة المغرب، أي تلك المدرسة الرائعة التى تخرج منها أنبل المدافعين عن الديمقراطية ببلادنا. هذا الرجل الذى تقلب في العديد من المناصب العلمية العالية في أعرق الجامعات الغربية، والذي شارك في أهم المؤتمرات العلمية، وحاز أرفع الجوائز كباحث وعالم مقتدر. ورغم كل هذا لم يهز ولا شعرة في مفرق الدولة المغربية. فكيف لم تصافحه، فبالأحرى تحتفي به ؟ أو لم يُـدرس تطوعا في بلادنا طـوال ثـلاث سنوات "لكنهم وضعـوا حدا لتجربـتي لسبب يـعـلمـه الله وحده" ! هذا ما يقوله العالم بتعـبيـر ينضح أسى.                                                                          

 ما أكثر ما سمعنا عن رجال ناكرين لجميل بلادهم، لكننا نحن هنا ولأول مرة أمام حالة فريدة، حالة بلد مريض في طور الإسعاف، ومع ذلك يرفض أن يتمدد على سرير العلاج، تحت إشراف واحد من أعظم الكفاءات وأروع الأطباء من أبنائه !!

 

لماذا ولماذا ؟ لن نتوقف عن طـرح السؤال بغصة في الحلق وعلامة استفهام في الجبين. الدكتوركمال المسعودي، يؤكد حديثا عن رفيق الدراسة : " طوال إقامته ببلادنا، فإن الدكتور منصف اسلاوى لم ينفك يردد بأنه لا يريد مالا، ولكنه يريد فقط لبلاده أن تستفيد من خبراته التحليلية، في مجال البيولوجية. لكن كل هذا تبخر وفرض المنفى نفسه عليه."

   

ولعلنا نسأل، ونحن في حيرة من أمرنا، كيف لأولى الأمر بكل هذا القصر، قصر الرؤية ؟ إني وإن كنت أملك تكوين المؤرخ، إلا أني هنا سأجازف بانتحال جُـبة عالم الاجتماع فهو وحده ينيرنا. إنه يقول بحصافة : "إن المنظومة السياسية اجتماعية، كما الهرمية الثقافية، قد تكلست في قناعاتها وامتيازاتها، لذلك فإن همها الأول والأخير ليس توظيف الكفاءات حتى تكون في خدمة التنمية الاقتصادية أو العدالة الاجتماعية، كلا إن همها الأول والأخير لهو إعادة إنتاج هذه البنية المتكلسة. من هنا، فإن التضحية بالعقول النيرة يصبح أمرا وقائيا وإجراءا صحيا يضمن سلامة البنيان المرصوص، لتلك الخيمة العتيدة، خيمة لقمان المقدسة".  

الدكتور أحمد بن بنور